قراءهٌ تحلیلیه تقویمیه مقارنه بین الإمامین: الطوفی والخمینی؛ حیدر حبّ الله
حیدر حبّ الله
تمهید
من الطبیعی أنّه عندما یتمّ التأکید على مرجعیّه المصلحه للأحکام الشرعیّه، وأنّها التی تقف خلف هذه التشریعات کلّها، وفی الوقت عینه تغدو المصلحه معیاراً لکشف الحکم الشرعی فی ما لا نصّ فیه، من الطبیعی أن یأتی إلى ذهننا هذا السؤال: ماذا لو کان ما انکشف لنا من النصّ یعارض ما انکشف لنا من المصلحه؟ مَنْ هو المرجع فی هذه الحال؟ هل یقدّم النصّ على المصلحه، أو العکس؟
فکره العلاقه بین النصّ والمصلحه یفترض أن تکون تلقائیّهً فی المناهج الاجتهادیّه القائمه على مرجعیّه المصلحه فی بعض المساحات من جهه، وقدره العقل على اکتشافها من جهه أخرى، لکنّنا نجد هذه القضیه تظهر للعلن بشکلٍ واضح مع الإمام نجم الدین الطوفی(۷۱۶هـ)، فی ما طرحه حول المصلحه.
لقد تسبَّبت أفکار الطوفی فی إثاره جدلٍ، ما یزال مستمرّاً إلى یومنا هذا، حول سؤال المرجعیّه بین النصّ والمصلحه؛ ففیما انتقد کثیرون ما طرحه الطوفی، حاول بعضٌ تفسیر کلامه أو إرجاعه إلى معانٍ أخرى قابله للقبول فی الفضاء الإسلامی العام.
على خطٍّ آخر، لم تکن الإمامیّه الاثنا عشریّه لتوافق ـ طبقاً لأصولها الفکریّه والاجتهادیّه ـ على مرجعیّه المصلحه، وخاصّهً فی مواجهه النصوص، لکنّ وجهه نظرٍ ترى أنّ الفکر الإمامی شهد بدایه تحوُّل هنا مع الإمام روح الله الخمینی(۱۹۸۹م)، الذی نظّر برأیهم لمقولات الطوفی عینها فی تقدیم المصلحه على النصّ، وهو أمرٌ یتوقّع أن یثیر جدلاً واسعاً فی فضاءٍ محافظ على هذا الصعید، مثل: الفضاء الإمامی.
سوف ندرس فی هذا المقال ـ إنْ شاء الله ـ فکرهَ المرجعیّه بین النصّ والمصلحه، متناولین بالتحلیل والتقویم ما قدّمه الطوفی والخمینی وأنصارهما، وکذلک ما طرحه المعارضون، لنحاول ضمن هذا المشهد الخروج بموقف فی هذا الموضوع بالغ الأهمّیه.
المواقف والالتباسات فی شخصیّه الإمام الطوفی وفکره
یصنّف الطوفی أوّل مَنْ عارض إجماع الأمّه فی منع تقدیم المصلحه على النصّ. وتبدو فکرته المثیره هذه داعیهً للباحثین للغوص فی شخصیّته وتاریخه، فموقفهم السلبی منه دفعهم للطعن فیه من عدّه جهات؛ تارهً من ناحیه مستوى علمه وحفظه ومکانته؛ وأخرى من ناحیه مذهبه، فرغم أنّه سنّی حنبلی، لکنّهم اعتبروا أنّه لم یَفِ لحنبلیّته، بل خالف الحنابله فی عدّه مواضع، کما لم یَفِ لسنّیته، بل مال نحو التشیُّع، حتى قیل بأنّه مال نحو الرفض، حیث اتّهمه ابن رجب الحنبلی(۷۹۵هـ) صراحهً بأنّه کان شیعیّاً منحرفاً عن السنّه()، وترجمه السید محسن الأمین العاملی فی أعیان الشیعه()، وتبنّى الإمام محمد أبو زهره وآخرون تشیُّعه().
وینقل الشیخ محمد سعید رمضان البوطی عن السید عبد الحسین شرف الدین، فی مقالٍ له فی مجلّه العرفان، أنّه ردّ على الدکتور محمد معروف الدوالیبی(۲۰۰۴م) فی زعمه أنّ الطوفی یعبِّر عن رأی شیعی، وأنّه قال: (إنّ الطوفی من الغلاه الذین ما زالت خصومنا تحمّلنا أوزارهم). وهو ما قاله فعلاً شرف الدین فی بعض کتبه(). ویمیل البوطی إلى أنّ الرجل کان یتطوّح بین التشیُّع والتسنُّن، فلم یمشِ على قواعد الفریقین فی الفقه والعقیده().
ولا أرید هنا أن أدرس شخصیّه الطوفی وتاریخه()، لکنْ یبدو لی أنّ خروج شخص عن قواعد المذاهب جمیعها لیس بالضروره دلیلَ ضعف؛ بل قد یکون أحیاناً مفتاحاً للتجدید والتنویر. ولیس بعیداً أن یکون الطوفی رجلاً لم یعِشْ تقیُّداً بالمذاهب، بل کان متنوّعاً حرّاً فی تفکیره، ممّا أنتج عنده حصیلهً قد تبدو خلیطاً هجیناً لا ینسجم مع أیٍّ من مذاهب المسلمین، ولهذا یُنقل عنه انتقاده الشیعه فی مواضع عدیده وبعنفٍ، کما یُنقل عنه انتقاداته للآخرین.
ولا أجد من الضروری تناول هذه القضیه بسلبیّه ونحن نبحث مسأله المصلحه؛ لأنّ إثاره الحدیث عن مذهب الرجل قد تشکّل ـ فی أسلوبها وطریقتها ـ عائقاً أمام سلامه البحث وموضوعیّته. فلنفرضه انتمى لأیّ مذهبٍ، فهذا لا یعنینا، وإنّما تهمّنا هنا آراؤه وأدلّته فحَسْب.
وفی مقابل سلبیّه بعض الباحثین من الطوفی، کالشیخ البوطی، نلاحظ أنّ الشیخ محمد رشید رضا(۱۹۳۵م) قام فی العصر الحدیث بطباعه رساله الطوفی فی مجلّه المنار؛ کی تکون ـ حَسْب تعبیره ـ تبصرهً لأولی الأبصار، کما جاء فی مقدّمه رساله الطوفی نفسها.
ویخیّل لی أنّ الموقف من رساله الطوفی یتأثّر سلباً وإیجاباً بمَدَیات تموضع الباحث وحاجته إلى التحرّر من النصوص وهو یتعامل مع الواقع، وهو ما یرتدّ إلى إشکالیّه العلاقه بین النصّ والواقع من جهه شبه أنطولوجیّه، ومعضله العلاقه بین النصّ والعقل من جهه إیبستمولوجیّه. فالفقیه الذی یبحث عن فکفکه المشکلات الناشئه عن تصادم الواقع (والعصر) مع النصوص قد یکون میّالاً لمثل تفکیر الطوفی، وخاصّه فی ظلّ فضاءٍ نصّی مغلق وجامد، وفی سیاق حاجه نهضویه للعقلانیّه؛ بینما الفقیه الذی عاش فی زمن التلاعب بالنصوص لأجل الواقع وضروراته، ورأى التأثیرات السلبیّه لهذا الأمر على الهویّه الدینیّه مثلاً، تجده حَذِراً من مثل رساله الطوفی.
إنّ الذی یحدونا لهذا التمهید حول هویّه الطوفی وشخصیّته وانتمائه لیس سوى الإشاره إلى:
أـ ضروره تحیید المواقف العقدیّه والمذهبیّه ونحن نتعامل مع نظریّه الطوفی أو غیرها؛ حتّى لا تکون حاجزاً أمامنا عن تناول الأفکار بموضوعیّه عالیه.
ب ـ إنّ شخصاً من هذا النوع یجب أن لا ننظر فی أعماله من منظارٍ انتمائی، بمعنى علینا أن لا نفهمه بالضروره مسقطین حنبلیّته أو تشیُّعه ونحن نفهم نظریّته؛ لأنّه من المتوقَّع منه أن یعالج الأمور بطریقهٍ مغایره تماماً للموروث عند المذاهب فی مطالعه قضیّه المصلحه، ربما من حیث التقسیم والتعریف والاستدلال والفهم وغیر ذلک. فنحن أمام عیّنه یتوقَّع منها طریقه مغایره تماماً فی تناول الأمور، وکأنّها تتحرّک ضمن بارادایم مختلف.
الطوفی ونظریّه تقدیم المصلحه على النصّ، بیانٌ وتشریح
یمهّد الطوفی لفکرته بذکر الأدلّه التی یعتمدها الفقیه فی الاجتهاد، ویبلغ بها تسعه عشر دلیلاً، یعتبرها أدلّه الشرع، یشرع فیها بالکتاب والسنّه والإجماع، وینتهی بإجماع أهل الکوفه وإجماع العتره (عند الشیعه) وإجماع الخلفاء الأربعه، کاشفاً عن کون بعضها مما هو متّفق علیه بین المذاهب؛ وبعضها الآخر مما هو مختلف فیه، ثم یستدلّ على تأصیل مرجعیّه المصلحه بحدیث (لا ضرر).
وبعد هذا التمهید یقول الطوفی: «وهذه الأدلّه التسعه عشر أقواها النصّ والإجماع. ثم هما إمّا أن یوافقا رعایه المصلحه أو یخالفاها؛ فإنْ وافقاها فبها ونعمت، ولا تنازع؛ إذ قد اتفقت الأدلّه الثلاثه على الحکم، وهی: النصّ؛ والإجماع؛ ورعایه المصلحه المستفاده من قوله×: (لا ضَرَر ولا ضرار)؛ وإنْ خالفاها وجب تقدیم المصلحه علیهما بطریق التخصیص والبیان لهما، لا بطریق الافتئات علیهما والتعطیل لهما، کما تُقدّم السنّه على القرآن بطریق البیان».
هذا النصّ هو الأکثر خطوره عند نقّاد الطوفی؛ فالطوفی هنا یعلن أنّ العلاقه بین النصّ والمصلحه تسمح للمصلحه بتخصیص النصّ. إنّه حَذِرٌ جداً من جعل المصلحه معارضه للنصّ أو حاذفه لمرجعیّته، فهو لا یقبل بذلک، لهذا فهو ینظِّر بالعلاقه بین الکتاب والسنّه، فکما أنّ السنّه تصلح لتخصیص الکتاب وتقییده وغیر ذلک ممّا یسمّى بیاناً له، کذلک الحال فی المصلحه تصلُح لهذا الأمر عینه فی علاقتها بالنصّ والإجماع، وبهذا تکون العلاقه بین النصّ والمصلحه علاقهً تفسیریّه من وجهه نظر الطوفی، ولیست علاقه غالبٍ ومغلوب.
لکنّ الأمر الأکثر تحدّیاً أمام الطوفی هنا هو فی تقدیم تصوّر معقول لبیانیّه المصلحه للنصّ أو لکون المصلحه تصلح لتخصیص النصوص أو تفسیرها، فکیف یمکن إدراج المصلحه فی سیاق المناهج التفسیریّه للنصوص؟ هذا الأمر یبدو حتّى الآن غیر مفهوم، ولعلّ عدم فهمه ساعد على توجیه انتقادات حادّه للطوفی من قبل خصومه.
لهذا یحاول الطوفی شرح هذه الفکره عبر القول بأنّ النصّ والإجماع إمّا لا یکون فیهما ضررٌ أو یکون، فإذا لم یکن فیهما ضرر البتّه فالأمر واضحٌ، وإذا کان فیهما ضررٌ فإنّ حدیث نفی الضرر الوارد عن النبیّ یصلح للتخصیص والاستثناء؛ جمعاً بین الأدلّه.
ویواجه الطوفی نفسه هنا بتساؤل، وهو: إنّ الإجماع أقوى من المصلحه؛ لأنّ المصلحه منطلقه عند الطوفی من الفکره التی یعطینا إیّاها حدیث لا ضرر، والمفروض أنّ الحدیث غیر قاطع ولا یقینی، فکیف یا تُرى تقدَّمت المصلحه الآتیه من حدیث غیر یقینی على الإجماع الذی یمثِّل یقیناً وقوّهً؟!
لکنّ الطوفی یرفض هذا الکلام کلّه بشدّه، مؤکّداً أنّ المصلحه أقوى؛ لأنّ الأقوى من الأقوى هو الأقوى.
وتبدو محاوله الطوفی حتّى الآن غیر مقنعه، الأمر الذی یضطرّه للکشف عن مبرّرات أقوائیّه المصلحه من النصّ والإجماع؛ لهذا یعقد بحثاً مطوّلاً نسبیّاً حول المصلحه ومرجعیّتها، فیعرِّفها فی الشرع ـ أوّلاً ـ بأنّها: «السبب المؤدّی إلى مقصود الشارع، عباره (عباده) أو عاده»، ثم یقوم ـ ثانیاً ـ بسرد النصوص التی تؤکّد بناء الشریعه على المصالح، معتمداً ـ فی عبارهٍ مختصره ـ على الاستقراء.
إنّ تعریف المصلحه بالسبب المؤدّی إلى مقصود الشارع یجعل هناک صلهً بین نظریّه المصلحه الطوفیّه ونظریّه المقاصد؛ وهو ما أظنّ أنّه سوف یساعده فی تکریس نظریّته، کما سوف نرى لاحقاً.
یواصل الطوفی محاولته عبر تأصیل فکره المصالح، فیتحدّث عن تعلیل الأفعال الإلهیّه، موافقاً على تعلیلها بعللٍ غائیّه، فی نزعهٍ معتزلیّه واضحه عنده هنا. ثم یتکلّم عن أنّ تبعیّه الأحکام للمصالح هل هی واجبه على الله أو أنّها من باب التفضّل؟ فیراها واجبهً علیه؛ من باب أنّه أوجبها على نفسه، مقترباً فی ذلک من التفکیر الأشعری. ثم یخوض فی تفصیل أدلّه رعایه الشریعه للمصالح، مستنداً للکتاب والسنّه والإجماع والعقل (النظر)، لیخرج بالنتیجه التالیه: ما دامت الشریعه قد بُنیت على المصالح وراعتها لزم تقدیم المصالح على النصّ تقدیمَ بیانٍ، ولیس العکس.
یبدو لنا الطوفی هنا وکأنّه؛ بمحاولته تأصیل فکره المصلحه فی بِنْیه التشریعات الدینیّه، یرید أن یجعل المصلحه أشبه بالقید اللبّی (المتّصل غیر الملفوظ) فی کلّ النصوص والإجماعات أیضاً، بمعنى أنّ کلّ نصٍّ؛ حیث إنّه مبنیّ على المصلحه، فکأنّه یقول: تشترط معلومیّه العوضین فی البیع؛ لأنّ فی المعلومیّه مصلحه، ومن ثم یدور الحکم مدار وجود هذه المصلحه حدوثاً وبقاءً. وکأنّ النصوص فی نفسها مقیّده الآن بحاله المصلحه، فإذا انتفت هذه الحاله لم یکن فی النصوص إطلاق. وهذا ما یجعل الطوفی مهتمّاً کثیراً بأقوائیّه المصلحه على النصّ؛ إذ رُبَما بجعله المصلحه جزءاً من بِنْیه التشریع یکون قد قیّد النصوص بالمصلحه من أوّل الطریق، فبارتفاعها تزول معطیات النصوص؛ لأنّ القید المتّصل أقوى من المقیّد به، والقرینه مقدّمه على ذی القرینه.
بل لعلّ ما تقدّم من تعریف الطوفی للمصلحه بأنّها السبب المؤدّی إلى مقصود الشارع یساعده هنا أیضاً؛ لأنّ الفعل المدلول علیه بالنصّ وجوباً أو تحریماً صار بحیث یلزم أن یکون مفضیاً إلى مقصود الشارع؛ إذ ما دامت الأحکام مبنیّه على المصالح، وما دامت المصالح مبنیّه على العلاقه السببیّه بینها وبین المقاصد الشرعیّه، فهذا یعنی أنّ کلّ دلیلٍ لفظی بات مقیّداً بأن یخدم سببیّه الوصول إلى المقاصد، فإذا انتفت هذه السببیّه صار الحکم مفرّغاً من مضمونه القائم علیه، وهو المصلحه. وبما أنّ المقصد هو المطلوب الأوّل فلا معنى لمطلوبیّه ما فی النصّ ما دام غیر قادر على إیصالنا ـ عبر المصلحه التی باتت منتفیهً فیه ـ إلى المقصد.
وهذا ما تؤکِّده عبارهٌ أخرى للطوفی فی آخر رسالته، حین یقول: «المصلحه هی المقصوده من سیاسه المکلّفین بإثبات الأحکام، وباقی الأدلّه کالوسائل، والمقاصد واجبه التقدیم على الوسائل». رغم أنّه فی التعریف اعتبر المصلحه سبباً للمقاصد، وهو هنا یعتبرها عینها.
من هنا، عاد الطوفی لتقدیم المزید من مبرّرات تقدیم المصلحه على النصّ والإجماع، عبر بیان عناصر قوّه فی المصلحه على الإجماع، بعد تقدیمه تحلیلاً نقدیّاً لحجّیه الإجماع، وهی:
أـ المصلحه متفقٌ علیها بین الجمیع؛ بینما الإجماع لیس متّفقاً على قیمته وحجّیته، فقد خالف فی ذلک جماعهٌ من المسلمین، کالنظّام وبعض الشیعه والخوارج والظاهریّه. والتمسُّک بالمتَّفق علیه أَوْلى من التمسُّک بغیره.
ب ـ النصوص مختلفه متعارضه، وهی سبب الاختلاف المذموم شرعاً؛ بینما المصلحه متّفق علیها، ونحن مأمورون بالاعتصام بعرى الوحده وترک الفرقه.
بهذه الطریقه صوَّر لنا الطوفی أنّ مرجعیّه المصلحه توجب اتفاق الأمّه، بینما مرجعیّه النصوص والإجماع توجب اختلافهم.
ج ـ بعض النصوص والوقائع التی تدلّ على أنّ النبیّ والصحابه استخدموا تقدیم المصلحه على النصّ عند التعارض، مثل: حدیث النبیّ لعائشه فی مسأله هدم الکعبه وبنائها على معیار إبراهیم×.
ورعایه المصلحه لیس قیاساً مذموماً کقیاس إبلیس، ولا تعطیلاً للشریعه، بل هو تقدیمُ دلیلٍ أرجح على غیره، عند عدم إمکان الجمع والتوفیق، کما تمّ تقدیم الإجماع على النصّ عند بعض الفقهاء.
بعد تقریره هذا المشهد یواجه الطوفی السؤال الذی یُعَدّ الأهمّ والأبرز هنا، وهو: إنّ الشریعه عالمهٌ بمصالح العباد بأفضل من علم العباد بمصالحهم، فترک أدلّه الشرع الدالّه على المصالح لصالح غیرها باطلٌ فاسد، بل هو معانده.
وکأنّ الطوفی هنا یواجه الفکره التی ترى أنّ ما یقوم به الآن من التنظیر للمصلحه لیس سوى الاجتهاد فی مقابل النصّ، والذی لا یقبل به المسلمون، فکیف یریدنا الطوفی أن نترک النصوص لصالح أمرٍ بشری، مع أنّ الشریعه أعلم بمصالحنا؟!
یستند الطوفی هنا فی ردّ هذه القضیّه إلى تفویضٍ شرعی بمعیاریّه فهمنا للمصلحه. فهو یعتبر أنّ الشریعه بنفسها أحالت فهم المصلحه علینا، عبر حدیث لا ضرر. وبهذا تکون عملیّه ترک النصوص تابعهً للعمل بنصٍّ آخر مقدّم علیها، وهو حدیث نفی الضرر. وهذا کلّه لا ینافی کون الله أعلم منّا بمصالحنا.
بهذه الطریقه جعل الطوفی ممارسته لمرجعیّه المصلحه بنفسه تطبیقاً لمرجعیه نصٍّ على نصّ، فهو یفترض تقدّم حدیث لا ضرر على سائر أدلّه الشرع، والمفروض أنّ تشخیص الضرر بید المکلَّف نفسه؛ لأنّ النصوص لا تشخّص له الضرر بنحو کشف المصادیق هنا وهناک، فتعیینه للضرر یوجب تنزیل حدیث نفی الضرر على الواقعه، وتجمیده للأحکام الأولیّه الموجوده فی النصوص ضمن تلک الواقعه.
بهذه الطریقه ینهی الطوفی تقریر فکرته، مؤکِّداً فی نهایتها على أنّه لا یدّعی القطع، بل یدّعی الاجتهاد فی هذه المسأله. والظنّ فی الفروع حجّه. کما أنّه یؤکّد أنّه لا یخشى مخالفه فکرته للسائد، لهذا فهو یقول ـ ردّاً على مَنْ قد یطالبه باتّباع السواد الأعظم، وهو مشهور الأمّه ـ: «والسواد الأعظم الواجب اتّباعه هو الحجّه والدلیل الواضح، وإلاّ لزم أن یتّبع العلماءُ العامّهَ إذا خالفوهم؛ لأنّ العامّه أکثر، وهو السواد الأعظم».
ولا ینتهی الطوفی من بحثه قبل أن یؤکِّد على فکره أنّ ما تحدّث عنه مجالُه غیر العبادات والمقدّرات الشرعیّه؛ أمّا العبادات والمقدّرات فمرجعها النصوص نفسها، شارحاً کیفیّه التعامل مع النصوص من حیث دلالاتها واختلافها وتعارضها. فمورد نظریّته الأمور غیر العبادیّه وغیر المقدّره فی الشرع، وهی: المعاملات والسیاسات والتجارات وأمثالها. ومبرّره فی هذا التمییز:
أـ إنّ العبادات حقّ الشرع، ولا نعرف حقّه إلاّ منه، أمّا حقوق المکلّفین فهی لهم ولأجلهم؛ لأنّها أحکام سیاسیّه وشرعیّه وضعت لمصالحهم. وحیث إنّ مرجعیّه المصلحه مقرّره من قبل المولى سبحانه لهذا نأخذ بها هنا.
ب ـ إنّ مصالح غیر العبادات معلومه للعباد بحکم العقل والعاده، فعندما لا یشرحها دلیل الشرع یُعلَم أنّه یحیلها للعقول.
ولا یترک الطوفی البحث قبل أن یوضّح الموقف فی حال تعدّد المصالح والمفاسد واختلافها، لیحکم بضروره الترجیح بالأهمّیه. فهو هنا ناظرٌ إلى قانون التزاحم وتقدیم الأهمّ، فیشرحه ویشرح حالات التساوی بتفصیلٍ منه()، لا داعی للخوض فیه هنا.
هذه صوره نظریّه الطوفی وهو یوضّح لنا مراداته. وعلینا تحلیلها ومقارنتها بالفضاء المحیط؛ فقد قیل بأنّ سلسله من قواعد الاجتهاد عند الفقهاء یمکن أن تشکّل البیئه الحاضنه لنظریّه الطوفی، وأهمّها:
۱ـ القول بالاستحسان بالمصلحه عند بعض المالکیّه، فهو نوعٌ من تخصیص النصّ بالمصلحه.
۲ـ قاعده بناء الشریعه على المصالح، أو قانون تبعیّه الأحکام للمصالح.
۳ـ بناء الفقهاء على قاعده تغیّر الأحکام زمکانیّاً بتأثیر عنصر المصلحه().
۴ـ تخصیص الغزالی العمومَ بالمصلحه، حیث قال فی مسأله قتل الزندیق المتستّر إذا تاب، والمخالفه للحدیث الدالّ على مقاتله الناس حتّى یشهدوا الشهادتین: «فهذا لو قضینا به فحاصله استعمال مصلحهٍ فی تخصیص عموم، وذلک لا ینکره أحدٌ»().
ویرى هذا التحلیل أنّ الطوفی بنى فکرته على هذه الأمور دون أن یشیر إلیها فی رسالته()، بما یوحی وکأنّ رسالته قاصرهٌ فی بیانها لفکرتها.
وإلى جانب هذا کلّه ممّا یوافق علیه بعض الباحثین، لکنّه یرى أیضاً أنّ نظریّه الطوفی هی أبلغ صوره وصل إلیها تاریخ الفقه الإسلامی على المستوى المعرفی، لکنّها قوبلت بالرفض الشدید ولم یکتب لها الاستمرار(). ویحتمل بعض الباحثین أنّ السبب هو أنّ الطوفی کتب رسالته هذه فی منفاه، ولم تکن من حوله بیئه تحتضن أفکاره، ولهذا لا نجد ذکراً لفکرته هذه حتّى عند الحنابله والمالکیّه الذین جاؤوا بعده أو عاصروه، رغم اهتمامهم بمثل هذه القضایا واشتغالهم علیها، کابن تیمیه وابن قیّم الجوزیه والشاطبی وغیرهم. ورغم حضور شخصیّه الطوفی فی المصنّفات اللاحقه، لکنّ نظریته هذه کانت غائبهً إلى أن أخرجها القاسمی، ثم رشید رضا فی العصر الحدیث().
نظریّه الطوفی ومسلسل الانتقادات والمناقشات
لم تهدأ الانتقادات على نظریّه الطوفی ـ أو کما سمّاها بعضهم: غلوّ الطوفی() ـ فی الفضاء السنّی، ثم الشیعی لاحقاً بدرجهٍ أخفّ. وقد کانت أبرز الانتقادات متکرّره موحّده بین الناقدین. وسوف نتوقّف قلیلاً عند هذه الانتقادات بالتحلیل، محاولین فی الوقت عینه ممارسه المزید من الحفر فی نظریّه الطوفی واستجلائها أکثر فأکثر.
۱ـ من تقدیم المصلحه على النصّ إلى تقدیم النصّ على النصّ
تعتبر هذه الملاحظه من الملاحظات المنهجیّه المهمّه، وهی ترى أنّ کلّ ما فعله الطوفی لا یبرّر تقدیم المصلحه على النصّ، ولا یؤسّس لنظریّه من هذا النوع؛ لأنّ مستند الطوفی فی کلّ ما قاله هو حدیث نفی الضرر، وهذا یعنی أنّ تجمید الأحکام الأوّلیه فی الشرع لیس إلاّ لأجلّ دلیلٍ من النصّ نفسه، وهو حدیث نفی الضرر، فما معنى القول بتقدیم المصلحه على النصّ؟!().
هذه الملاحظه صحیحهٌ. وفی الوقت عینه لا أظنّها تزعج الطوفی، بل هو قد صرّح بها فی رسالته؛ لأنّ الفکره المرکزیّه هنا هی أنّ الطوفی یرید منح مرجعیّهٍ للفهم العقلی البشری للمصلحه، ویقدّم هذه المرجعیّه على النصّ. ومستنده فی التقدیم هو مرجعیّه النصّ، فکأنّه اعتبر ـ أو على الأقلّ یمکنه أن یعتبر ـ أنّ حدیث نفی الضرر هو دلیل حجّیهٍ، بحیث یصبح فهم المصلحه حجّهً بدلیل حجّیهٍ هو حدیث نفی الضرر. فأنت عندما تجعل آیه النبأ دلیلاً على حجّیه خبر الواحد لا تقول بعد ذلک بأنّ تعارض الخبر مع الإجماع هو تعارض القرآن مع الإجماع، بل تعبِّر عنه بأنّه تعارض الخبر مع الإجماع أو مع قول الصحابیّ، وهکذا أنت تقول: أنا أعمل بالقیاس وهو مصدرٌ اجتهادی، وفی الوقت عینه یکون دلیل حجّیه القیاس عندک هو النصّ القرآنی، دون أن یسلب ذلک القیاسَ مرجعیّتَه القائمه به. فحدیث لا ضرر هو بمثابه دلیل حجّیه المصلحه بفهمها البشری، وبعد تحقُّق حجّیه الفهم البشری للمصلحه ـ والذی عبّر عنه الطوفی بتفویضنا فهم مصالحنا ـ تصبح العلاقه بین المصلحه والنصوص الأوّلیه، وهذا ما کان یهدف إلیه الطوفی.
وبعبارهٍ أخرى: إنّ مرجعیّه المصلحه فی وقوفها بوجه النصوص هو النصوص.
۲ـ استحاله معارضه النصّ للمصلحه، أو عبثیّه الافتراض
المعضله الثانیه التی یراها الناقدون هنا هی أنّ الطوفی عقد رسالته کلّها لمعالجه فکره معارضه النصوص للمصالح. والفرضیّه فی حدّ نفسها غیر معقوله؛ لأنّ الشریعه مبنیّه على المصالح، فکیف یعقل أن تُعارض المصالح؟! وبتعبیرٍ آخر: إنّ الشریعه فی ذاتها جاءت لأجل تحقیق مصالح العباد، فکیف یُعقل الحدیث عن فرضیّه تعارضها مع مصالح العباد لتقدیم المصالح علیها؟! بل إنّ الطوفی یرفض وجود المصالح المهمله، ویرى أنّ الشریعه راعت جمیع المصالح، ویقیم الأدلّه من الکتاب والسنّه وغیرهما على أنّ الشریعه راعت جمیع المصالح کلّها، فکیف تسنّى له أن یجمع بین قوله هذا وبین اعتقاده بتصادم النصّ مع المصلحه؟!().
إلاّ أنّ هذه الملاحظه لم تفهم فی تقدیری فکره الطوفی؛ لأنّها لم تمیِّز بین مقام الثبوت والشیء فی نفسه، وبین مقام الإثبات والشیء بحَسَب انکشافه لنا. فالطوفی لا یشکّ فی أنّ الشریعه الواقعیّه لا تعارض المصالح، بل هو سعى لإثبات ذلک. إنّما کلامه فی کیفیّه اکتشاف الشریعه الواقعیّه التی لا تعارض المصالح وسُبُل الاجتهاد فیها، ولهذا فهو یقول بأنّ إطلاق الدلیل ـ مثلاً ـ لو عارضه رؤیتنا لمفسدهٍ فی مورده فهنا هل الشریعه تجعل إطلاق الدلیل حجّهً علینا أو تقیّده برؤیتنا للمصالح والمفاسد، والتی هی رؤیه حجّهٍ معتبره بحدیث لا ضرر؟ إنّ القضیّه تکمن هنا، لا فی واقع الشریعه. فالإشکال خلطٌ بین مقام الثبوت ومقام الإثبات.
۳ـ المصلحه من التوحید إلى الفُرقه، أو وَهْم توحیدیّه المصلحه
یسجِّل بعض الناقدین هنا ملاحظهً، یمکننی أن أوافق علیها، وهی تتّصل بمحاوله الطوفی جعل مرجعیّه المصلحه أقوى من مرجعیّه الإجماع والنصّ، انطلاقاً من الاتفاق علیها، وذلک أنّ تشخیص المصالح وتعیینها هو أمرٌ مختلف فیه کذلک، بل هو عُرضه ـ رُبَما بشکلٍ أکبر ـ للأهواء والرغبات، ولیس قضیّهً واضحه للجمیع حتّى تکون مدعاهً لاتّفاق الأمّه، بینما النصوص والإجماعات موجبهً للفرقه!().
ولا یستطیع الطوفی هنا أن یجیبنا بأنّ الإجماع مختلفٌ فی أصل حجّیته، بخلاف المصلحه؛ لأنّه استعان فی إثبات تفوّق المصلحه على الإجماع بأنّ المصلحه توحّد، والنصوص؛ لتعارضها، تفرِّق، مع أنّ النصوص لا شَکَّ فی أصل حجّیتها. وبهذا نفهم أنّ الطوفی کان ناظراً لتنزیل حجّیه الإجماع أو النصّ على مجال الممارسه التطبیقیّه. وفی هذه الحال لا یصحّ منه زعم أنّ مرجعیّه المصلحه توحّد؛ فإنّ البشر أشدّ اختلافاً فی تعیین المصالح والمفاسد، سواء على مستوى الکلّیات والمعاییر أم على مستوى التطبیق المیدانی.
بل ثمّه فی مرجعیّه المصلحه خطوره من ناحیهٍ أخرى کان ینبغی أن یُلفت إلیها الطوفی، وهی خطوره الاستغلال؛ لأنّ التذرّع بالمصالح العلیا من أقوى وسائل السلطات الحاکمه للتلاعب بحقوق الناس، بل وبقضایا الدین نفسه. ولم یضع لنا الطوفی أیّ معیار یجنّبنا خطورهً من هذا النوع، بل هذه المخاطره عندما تُلصِقُ نتائجَها بالدین تصبح مقلقهً وحقیقیّهً تماماً من الزاویه الدینیّه، ولذلک کان أمثال: القرافی وابن تیمیه على حَذَر من قضیّه المصلحه عموماً.
بل حتّى على مستوى التنظیر، ولیس التطبیق، لیس مبدأ مرجعیّه المصلحه فی الاجتهاد أمراً مجمعاً علیه. فعلى الأقلّ لبعض الشیعه والخوارج والظاهریّه موقفٌ سلبی هنا، وهذا واضحٌ. بل لو کان مجمعاً علیه فإنّ مبدأ مرجعیّه النصّ أقوى فی هذا الإجماع فی الأمّه من مبدأ مرجعیّه المصلحه. وإذا قصد من الإجماع على المصلحه أصل قانون تبعیّه الأحکام للمصالح والمفاسد ثبوتاً فهذا لو تمّ فیه إجماعٌ، لکنّه غیر الإجماع على مرجعیّه المصلحه بوصفها وسیلهً اجتهادیّه، کما هو واضحٌ، وألمحنا إلیه.
بل قد أضاف بعضُ الباحثین ـ وهو الدکتور مصطفى زید ـ أنّ التعارض بین النصوص قضیّه واقعه فی العبادات نفسها، والطوفی لا یقبل بإجراء قانون تقدیم المصلحه على النصّ فی العبادات، ویرى أنّ التعارض بین الأحادیث له علاجه هنا، ویقدّم فیه صیغاً علاجیّه. والإشکالیّه هی: إذا کان الطوفی یوافق على وجود مرجعیّات علاجیّه للتعارض القائم بین النصوص، ویعمل علیه فی العبادات، فلماذا لا تکون هذه المرجعیّات العلاجیه رافعاً للفرقه التی تقع بسبب تعارض الأخبار حتّى فی غیر العبادات؟! بل إنّ الطوفی فی آخر رسالته یشرح الموقف فی حال تعارض المصالح والمفاسد. فالمشکله هی هی، وکما یوجد مرجعیّات علاجیّه فی تعارض المصالح والمفاسد توجد کذلک فی تعارض النصوص، فما الفرق بین الحالتین؟! ومن ثمّ فزعمه أنّ النصوص متعارضه، فتکون مدعاه لفرقه الأمّه؛ فیما المصلحه لیست کذلک، لا یکون له وجهٌ على الخطّین معاً().
وإنّنی إذ أُوافق على هذه الإضافه النقدیّه، لکنْ لدیّ ملاحظه على تفصیلٍ جزئیّ فیها، وهی ملاحظه تطال الطوفی والناقد معاً هنا، وذلک أنّ وجود المرجعیّات العلاجیّه لا یرفع الفرقه، لا فی تعارض المصالح، ولا فی تعارض النصوص؛ لأنّ الاختلاف الواسع قائمٌ تارهً فی أصل وتعیین المرجعیات العلاجیّه؛ وأخرى فی کیفیّه تطبیقها على الوقائع والحالات، وهذا أمرٌ نجده فی التعارض المصلحی والنصّی معاً، وإنْ کان فی النصّی أوضح على بعض الصُعُد.
ومن الغریب ما قاله البوطی هنا، من أنّ دعوى تعارض النصوص تعنی أنّها لیست من عند الله! فکیف یدّعی الطوفی أنّ النصوص متعارضه، والمفروض أنّها من الله؟ وذلک أنّ تعارض النصوص یُقصد منه ما وصلنا من الروایات المنسوبه، لا تعارض الصادر من النصوص. فغریبٌ جدّاً من البوطی طرح هذه المداخله النقدیّه، وإلاّ فلماذا یبحث الأصولیّون والمحدِّثون وعلماء الصنعه الحدیثیّه فی اختلاف الأخبار وقواعد حلّ التعارض؟
وعلى أیّ حالٍ أصلُ هذه الإشکالیّه تفصیلیّه بالنسبه للطوفی؛ ولو أنّه حذفها فلن تتضرّر نظریّته؛ لأنّ طریقه تقدیم دلیل نفی الضرر على سائر الأدلّه الأوّلیه لا حاجه فیها إلى فکره الوحده والفرقه. علماً أنّ فکره الوحده والفرقه لا تمثِّل دلیلاً شرعیّاً مستقلاًّ فی الاجتهاد حتّى نرجّح ما یوجب الوحده على ما یوجب الفرقه، وإلاّ لزم القول بسقوط حجّیه الأخبار کلّها لما تسبِّبه النصوص الحدیثیّه من اختلاف فی الأمّه، کما قال بذلک الکثیر من القرآنیین المتأخِّرین والمعاصرین.
أضِفْ إلى ذلک أنّ هناک فرقاً بین الخلاف فی الأمّه والاختلاف؛ فاختلاف الرأی والاجتهاد رُبَما لا یسبّب مشکلهً فی بعض الأحیان، بل یکون باباً للتیسیر على المکلّفین؛ بینما الخلاف والصراع والنزاع وضعف آلیّات الاختلاف هی المشکله الأکبر فی هذه الأمّه.
لهذا من الأفضل للطوفی التخلّی عن تقدیم المصلحه على النصّ ضمن معیاریّه الوحده والفرقه، نحو ممارسه تقدیم یقوم على أصول دلالیّه وهرمنوطیقیّه، استناداً إلى علاقه دلیل حجّیه المصلحه بأدلّه الأحکام الأوّلیه، وهو ما سنتحدَّث عنه فی المداخله التالیه.
۴ـ علاقه النصوص الأوّلیه بحدیث نفی الضرر
یبدو ـ أو فُهِمَ ـ من الطوفی أنّه یرید تخصیص جمیع الأدلّه الأوّلیه فی الشرع بحدیث نفی الضرر، باعتبار أنّها عامّه فی کلّ موردٍ من مواردها لحاله الضرر وغیره، فیکون حدیث نفی الضرر أخصّ منها، فیخصِّصها.
إنّ علاقه حدیث نفی الضرر بأدلّه الأحکام الأوّلیه لا تبدو واضحه بسرعه للباحث، ویمکن تصوّرها من جهات متعدّده لمعرفه مدى صوابیه تقدیم الطوفی لحدیث نفی الضرر على سائر الأدلّه التفصیلیه فی الشرع. ویمکننا هنا ذکر بعض التخریجات المتصوّره لشرح هذه العلاقه، والتفصیل فی محلّه، وأهمّها:
التخریج الأوّل: ما ذکره بعض الباحثین المعاصرین ـ ناقداً نظریّه الطوفی ـ من رفض العلاقه السلطویّه بین حدیث لا ضرر والأدلّه الشرعیّه، فذکر أنّ حدیث لا ضرر هو العامّ، والأدلّه التفصیلیّه فی المجالات المختلفه هی الخاصّ، فالمفترض أن نقول: إنّ حدیث نفی الضرر یقرّر عدم وجود ضرر فی الشریعه، لکنّه یخصَّص بالدلیل الدالّ على وجوب العقوبات والحدود مثلاً رغم ما فیها من ضرر، وبهذا الجمع نصل إلى نتیجه تقدّم الأدلّه التفصیلیّه على حدیث لا ضرر، ولیس العکس، خلافاً لما أراده الطوفی().
لکنّ هذه المحاوله لم تلاحظ أنّ النسبه الحقیقیّه بین کلّ نصٍّ خاصّ وبین حدیث نفی الضرر هی العموم والخصوص من وجه؛ لأنّ النصّ الخاصّ یثبت أحکامه بالإطلاق الشامل لمورد الضرر وغیره، کوجوب الوضوء الشامل للوضوء الضرری وغیره؛ وحدیث نفی الضرر ینفی الضرر فی مورد هذا النصّ (الوضوء) وغیره، فتکون النسبه مما لا یقبل تخصیص أحدهما بالآخر، بل لو صحّت فرضیّه هذا المناقش هنا لکان تخصیص الدلیل الشرعی التفصیلی بحال عدم الضرر وعدم الحَرَج مستحیلاً، ومن ثمّ فیلزم الإبقاء على ثبوت وجوب الصوم ولو لزم منه الضرر أو الحَرَج، وهذا غیر معقول؛ لأنّه یفضی عملیّاً إلى تعطیل قانون نفی الضرر ونفی الحَرَج، إذ أین سیصبح مورد تطبیقهما فی ما دلّت علیه النصوص بإطلاقها أو عمومها الشاملین لمورد الضرر والحَرَج؟!
وکأنّ المناقش هنا تصوَّر أنّ المراد هو نفی الشیء الذی یکون منه الضرر نوعاً، أو یتعنون بالعنوان الضرری نوعاً، لهذا مثَّل بالعقوبات، مع أنّ ثبوت الضرر فی الشرع أعمّ من هذه الحال.
التخریج الثانی: ادّعاء أنّ تقدیم حدیث نفی الضرر على سائر الأدلّه مبرّره أنّ الحدیث وما یحفّ به من مؤیّدات قطعی السند، فیقدّم على الأدلّه الظنّیه؛ لأنّ تلک الأدلّه سوف تصبح فی إطلاقها أو عمومها معارضهً لقطعیّ السنّه، والقاعده تفرض علینا طرح ما خالف قطعیّ السنّه.
لکنّ هذه المحاوله تفترض فی البدایه أنّ حدیث نفی الضرر وما یحیط به قطعیّ الصدور، وهذه القطعیّه محلّ خلاف شدید وغیر مقنعه. نعم، أصل نفی الضرر فی الجمله فی الشریعه معلومٌ، أمّا وجود حدیث له عموم أو إطلاق فهو أمرٌ غیر محرز بشکل یقینی. بل فی المقابل لو صحّ هذا التخریج فلن یتمکّن من مواجهه الأدلّه قطعیّه الصدور، کالنصوص القرآنیّه والعدید من نصوص السنّه، وسیجعل ذلک قاعده نفی الضرر ضیّقه الدائره، وهو ما سیلغی فی کثیرٍ من الأحیان قدرتها على التأثیر، وهو ما رُبَما لن یخدم نظریّه الطوفی أیضاً.
التخریج الثالث: ما أحتمل شخصیّاً أنّه هو مستند الطوفی، وقد تناوله أیضاً بعضُ الأصولیّین من الإمامیّه، وهو أن یُفترض أنّ العلاقه مع حدیث نفی الضرر لا ینبغی أن نجعلها مع کلّ نصّ شرعی على حِدَه، لتکون النسبه هی العموم والخصوص من وجهٍ، بل نجعلها بین الحدیث وبین مجموع الأدلّه الشرعیّه، وبتغییر شکل أحد طرفی العلاقه سوف تتغیَّر النتیجه، وسوف تصبح عموماً وخصوصاً مطلقاً؛ فکأنّ حدیث لا ضرر یخصّص جمیع الأدلّه الشامله لجمیع الوقائع دفعهً واحده وبما هی مجتمعهً معاً وفی قوّه نصٍّ واحد، وبهذا یکون مبرّر تقدّم حدیث نفی الضرر على سائر الأدلّه هو التخصیص، کما یُفهم من الطوفی.
لکنّ هذا التخریج ناقشه السید الخوئی بأنّه لا یوجد عندنا دلیلٌ اسمه مجموع الأدلّه حتّى نوقع التعارض معه، بل لیس بأیدینا إلاّ کلّ نصٍّ قائم بذاته، فالعلاقه یجب أن تکون بین حدیث نفی الضرر وکلّ نصّ على حِدَه(). وبعبارهٍ أخرى: إنّ اعتبار مجموع الأدلّه دلیلاً واحداً فیه عنایهٌ زائده تحتاج إلى تبریر بعد أن کان کلّ دلیل هو فی حقیقته دلیلاً مستقلاًّ، ولا نملک تبریراً لهذه العنایه الزائده().
لکنّ السید الصدر رفض هذه المناقشه، واعتبر أنّ الشریعه لمّا نزلت بالتدریج، معلنهً ذلک فی سیاستها التبیینیّه، فکأنّها ترى أنّ الفاصل الزمانی بین نصوصها منزّلٌ منزله العدم، فیکون الارتباط بین حدیث نفی الضرر وسائر الأدلّه بحکم الاتصال، ولولا نصب الشریعه قرینه عامّه على سیاستها التدریجیّه فی بیان الأحکام لما قام العرف بتقدیم الخاصّ على العام مع الانفصال، فإنّ هذا لا یفهمه العرف إلاّ تعارضاً مستقرّاً ومستحکماً، وعبر هذه الطریقه تصبح العلاقه الاتّصالیّه بین حدیث نفی الضرر ومجموع الأدلّه قائمهً، وبهذا یقدّم علیها بالأخصیّه().
ولا أرید أن أخوض هنا فی مناقشات حول هذه الفکره؛ إذ قد یلزم منها ـ کما أفاد السید الحائری ـ هدم الظهور؛ بسبب تحوُّل القرائن المنفصله إلى قرائن متصله()، وهذا ما یحدث ما یشبه عندهم الکارثه فی الاجتهاد، وفقاً لمعاییر الأصولیّین فی خصائص القرینه المتصله والمنفصله. لکن ما أودّ التعلیق علیه هنا، مکتفیاً به، هو أنّ سیاسه التدرّج فی بیان الأحکام لا تعنی الاتصال أبداً ولا ما فی قوّته، ولا یوجب ذلک ربط کلّ نصّ بمجموع النصوص الشرعیّه ربطاً اتصالیّاً بالمعنى الدلالی للکلمه؛ لأنّ سیاسه التدرّج لا تعنی إلاّ أنّ الأحکام تأتی بشکلٍ تدریجی، والبدیل الذی کان ینبغی أن یُقحمه الصدر هنا هو أنّ النصّ إذا کان فی دلالته على صلهٍ بخمسه نصوص من حیث مضمونه فإنّ الفهم العرفی للنصوص یکون بمقارنته بالمجموع، لا بفصل علاقاته مع کلّ واحد على حِدَه. فلو جاء دلیلٌ منفصل یتحدّث عن الضرر على المتوضئ فقال: الوضوء الضرری مرفوعٌ عنکم فإنّ العرف لا یربط هذا الحدیث ربطاً منفصلاً بکلّ نصٍّ نصٍّ من نصوص الوضوء وأحکامه، فیُحدث التشظّی والتقطیع بینها، بل یربط النصّ بما یتّصل به من حیث المضمون بوصف المتّصل نصّاً واحداً، لا بجعل الحدیث قرینهً متّصله مع مجموع ما یرتبط به. فکلام السید الخوئی والسید الصدر معاً غیر مقنع، وفی الوقت عینه یبدو أنّ فکره نسبه حدیث نفی الضرر إلى المجموع معقوله، وخاصّه مع ورود تعبیر (فی الإسلام) فی بعض روایات حدیث الضرر.
لکنْ مع هذا کلّه یبقى فی النفس شیءٌ من إثبات أنّ العرف یعمد إلى ذلک، فیکون الأمر محتملاً على الوجهین، ولا مرجِّح فی البین، وإنْ کانت النفس تمیل إلى قیام العرف بذلک.
التخریج الرابع: ما یصبّ أیضاً فی مصلحه نظریّه الطوفی، ورُبَما یکون هو المستکنّ فی ذهنه. فبدل أن یذهب الطوفی إلى ممارسه التخصیص المباشر؛ لأنّ التخصیص المباشر قد لا یسمح للطوفی بتقدیم حدیث لا ضرر على الأدلّه الأوّلیه؛ إذ النسبه بینه وبینها هی العموم والخصوص من وجه (بصرف النظر عن التخریج الثالث)، وفی هذه الحال لا موجب للتقدیم، بل المتعیِّن هو التساقط…
بَدَل أن یذهب نحو ذلک، کان من الأفضل له استخدام نظریّه الحکومه التی انتصر لها ـ فی علاقه لا ضرر بأدلّه التشریعات الأوّلیه ـ جمهورُ أصولیّی الإمامیّه فی القرنین الأخیرین، طبعاً لو قبلنا بفهمهم وتفسیرهم لهذا الحدیث، ووافقنا على أصل فکره الحکومه، وکذلک بصرف النظر عن فهم الحکومه هنا وهویّتها، حیث یوجد خلافٌ بین مدرسه النائینی وغیره…، فقد اعتبروا أنّ الحدیث ناظرٌ إلى مختلف الأحکام الشرعیّه، ویشیر إلیها، ویعلن نفی الضرر فیها، وخصوصیّه الحکومه هذه (والتی یفسِّرها بعضهم بالنظر والإشراف) هی التی تجعل حدیث لا ضرر مقدّماً، ولیست خصوصیّه نسبه الأخصّیه؛ لعدم وجودها؛ حیث النسبه هی العموم والخصوص من وجهٍ.
وبهذا نعرف أنّه لو تمّ فهم المشهور لحدیث نفی الضرر فإنّ الصحیح هو ما ذهب إلیه الطوفی من تقدیم حدیث نفی الضرر على سائر الأدلّه الشرعیّه.
۵ـ الطوفی ومفارقه التمسُّک بالإجماع ضدّ الإجماع
لاحظ بعضُ الناقدین على الطوفی أنّه اعتمد على الإجماع فی إثبات تقدّم المصلحه على الإجماع؛ وذلک حین اعتبر أنّ قوّه المصلحه على الإجماع تکمن فی الإجماع على مرجعیّه المصلحه، بینما الإجماع نفسه محلّ خلاف فی الأمّه، وغیر ذلک، والاعتماد على الأمر المتفق علیه یوجب الوحده، فیکون أرجح من غیره، وهذا یعنی أنّ الطوفی اعتمد على أمرٍ مختلف فیه ـ وهو الإجماع ـ؛ لکی یُثبت أنّ المصلحه أرجح من غیرها، وهذا نوعٌ من المفارقه().
لکنّ هذا النوع من الانتقادات لا یصحّ مؤاخذه الطوفی به؛ فالطوفی یبدو علیه الاعتقاد بحجّیه الإجماع. فقد استند إلى ما یعتقد هو أیضاً به. کما أنّه یبدو کونه بصدد مناقشه الرافضین لفکرته فی سیاق یؤمن بحجّیه الإجماع ونفوذ منطقه. لهذا استخدم أدلّتهم فی إثبات نظریّته، وهذا رائجٌ. لکنْ لو تمکّن الطوفی من إثبات تقدّم المصلحه على الإجماع بمعطیات متّفق علیها لکان ذلک أقوى له أیضاً.
۶ـ من نقد سعه النصّ إلى نقد النصّ نفسه، هل اجتهد الطوفی فی مقابل النصّ؟!
هناک تهمهٌ رائجه یتهم بها الطوفی، وهی أنّه نظّر للاجتهاد فی مقابل النصّ. ونرید هنا أن ندرس هذه التهمه ونقوّمها.
فی البدایه، ثمّه تساؤلٌ یمکن أن یطرح نفسه هنا، وهو أنّ القاعده التی أصّلها الطوفی فی تقدّم المصلحه على النصّ هل تقف عند حدود التعامل بین دلیلین ثبتت حجّیتهما، لکنّهما تنافیا فی موضع مشترک؛ أو أنّ القضیه تذهب أبعد من ذلک؟ وبتعبیرٍ آخر: هل تتمکّن المصلحه عند معارضتها للنصّ من تقیید النصّ وتخصیصه فقط، أو أنّ لدیها القدره على إبطال النصّ بشکلٍ تامّ وطرحه جانباً أیضاً؟
من الطبیعی أنّ هذا التساؤل سوف یفرض ثلاثه أشکال من العلاقه بین النصّ والمصلحه، هی:
الشکل الأوّل: أن تکون حجّیه النصّ ثابته نهائیّاً، وکذلک حجّیه المصلحه، لکنْ یتنافیان فی حالهٍ أو ظرف أو موضع معیّن، کما لو دلّ الدلیل على حصر حقّ الطلاق بید الرجل، وفی حاله کون الرجل عدوانیاً معتدیاً على المرأه باستمرارٍ یصبح هذا الحصر مخالفاً للمصلحه.
هنا تعنی هذه المنافاه أنّ إطلاق دلیل حصر حقّ الطلاق بالرجل یعارض إطلاق دلیل مرجعیّه المصلحه، ومرکز التعارض هی حاله عدوانیّه الرجل وإضراره بالمرأه. ومن الواضح فی تقدیری أنّ هذا الشکل مشمولٌ لکلام الطوفی. لکنْ کیف یعالج الطوفی مشکلهً من هذا النوع؟ نحن لا نعرف. فهل یعتبر أنّ تقدّم المصلحه على النصّ یُلزم الرجل بالطلاق، أو أنّه یذهب بها أبعد من ذلک، فیُثبت للمرأه هنا حقّ الطلاق لنفسها؟ هذا ما یحتاج لتأمُّلٍ أکثر؛ لفهم توابع نظریّته.
الشکل الثانی: أن یکون مرکز التنافی مستمرّاً دائماً على طول الخطّ، ولیس له حالهٌ دون حاله، غایه الأمر أنّ فتره عصر النصّ لم یکن فیها هذا التنافی قطعاً أو احتمالاً. وفی هذه الحاله یتنافى الإطلاق الأزمانی للنصّ مع مرجعیّه المصلحه، ویفترض منطقیّاً أن یقول الطوفی هنا بتاریخیّه النصّ المذکور؛ انسجاماً مع قانون تقدّم المصلحه على النصّ.
وهذا الشکل وإنْ کان من أشکال الشکل الأوّل، لکننا فصّلناه لمزید أهمّیته.
الشکل الثالث: أن یفترض أنّ النصّ بتمام حالاته وأزمنته وأوضاعه منافٍ للمصلحه. وفی هذه الحاله یفترض أن یقول الطوفی بنفی صدور النصّ. وهذا إنّما یکون عادهً فی الطرق الظنّیه لإثبات النصوص، مثل: أخبار الآحاد وغیرها.
لا یبدو واضحاً من الطوفی أنّه یتحدّث عن هذه الحاله، وإنْ بدا من الشیخ البوطی نسبه ذلک منه إلى الطوفی(). لکنّ توابع نظریّته یفترض أن تطال ذلک منطقیّاً، ومن ثمّ فیکون من شروط ثبوت حجّیه الطرق الظنّیه الأخرى عدم منافاتها مع المصلحه.
والسؤال: هل نظریّه الطوفی هنا تجعل العلاقه المتعاکسه بین النصّ والمصلحه من نوع علاقه التعارض أو من نوع علاقه التزاحم؟
هذا السؤال فی غایه الأهمّیه؛ لأنّنا لو جعلنا نظریّه الطوفی من شؤون باب التعارض بین الأدلّه فهذا یعنی أنّ المصلحه تهدم إطلاق أو عموم النصوص فی حالتها، أو تهدم حجّیه النصّ تماماً؛ بینما لو قلنا بأنّ مرجع نظریّه الطوفی هو التزاحم فهذا یعنی أنّ النصوص سالمهٌ من حیث إطلاقاتها وعموماتها، کلّ ما فی الأمر أنّه فی حاله تزاحم امتثال دلیلین شرعیّین، هما: النصّ والمصلحه، ولا یتسنّى الجمع بین الامتثالین المذکورین، نأخذ بالأهمّ، وهو مفاد المصلحه عند الطوفی. وهذا کله على بعض النظریات فی التمییز بین التعارض والتزاحم.
إذا فسّرنا العلاقه بأنّها علاقه تزاحم فیجب حذف الشکل الثالث المتقدِّم من أشکال التنافی بین النصّ والمصلحه؛ لأنّ علاقه التزاحم لا یمکنها أن تکون موجوده فی حاله التنافی المطلق، فیما یبقى الشکل الأوّل، ورُبَما ـ بشیءٍ من التکلّف ـ الشکل الثانی أیضاً؛ أمّا لو قلنا بأنّ الحاله هی حاله تعارض فالأشکال الثلاثه متصوّره.
وإذا جعلناها من نوع التعارض فما هو المرجِّح لتقدیم المصلحه على النصّ؟ یجیب الطوفی هنا بأقوائیّتها، وبناء الشریعه علیها.
والراجح بالنظر أنّ الطوفی فهم الأمر على أنّه تعارضٌ. وهذا منسجمٌ مع تخریج الموقف وفقاً لنظریّه التخصیص أو الحکومه بما یفهم من کلامه. وبناءً علیه یأتی السؤال: ما هو نوع المرجِّح لتقدیم المصلحه على النصّ عند التعارض، فنهدم إطلاق الدلیل أو نسقط أصل حجّیته؟
ویمکن الجواب ـ انتصاراً لموقف الطوفی ـ بأنّه ما دامت الشریعه الواقعیّه مقیّده فی جمیع أحکامها برعایه المصالح فهذا یعنی أنّها مقیّده ذاتاً بعدم الثبوت وعدم الشمول لأیّ موردٍ یکون على خلاف المصلحه. فإذا أدرکنا المصلحه بسبیلٍ معتبر شرعاً فهذا یعنی أنّ هذه الحال التی أدرکنا فیها المصلحه یفترض أن تکون خارجهً عن الشریعه، وتلقائیّاً لا یکون من المعقول أنّ النصّ یشملها؛ لأنّ النصّ لا یشمل ولا یخبر إلاّ عن الشریعه الواقعیّه، المفروض أنّها مقیّده بعدم معارضه المصلحه.
وبناءً علیه کلّ الحجج الصدوریّه والدلالیّه لا یشمل دلیل حجّیتها حاله کونها معارضه للمصلحه. فمجیء دلیل حجّیه المصلحه على عکس مفاد النصوص یوجب تقدّمه علیها.
بل یمکن القول بأنّ الظنّ بعدم المصلحه فی حالهٍ ما یوجب سقوط الظنّ بصدور الحدیث أو إطلاقه وعمومه. وأدلّه حجّیه الظنّ الصدوری أو الدلالی مقیّده بعدم وجود ظنٍّ على خلافها، والمفروض وجوده هنا، فتسقط عن الاعتبار. وهذا ما ینتج تقدّم المصلحه على النصّ عملیّاً، بمعنى زوال حکم النصّ فی حال الظنّ بعدم المصلحه، فضلاً عن القطع.
ولکنّ هذه العملیّه برمّتها تقوم على:
أـ أصل قدره العقل موضوعیّاً على کشف المصلحه أو المفسده، ولو بمستوى الظنّ.
ب ـ ثبوت کون الإدراک العقلی الظنّی للمصلحه أو المفسده قد ثبتت له الحجّیه من الشارع، حتّى فی حال تعارضه مع نصوص ولو ظنّیه معتبره.
والخصوصیّه الأولى أکثر أهمّیه هنا؛ لأنّها لو لم تثبت لم یکن یمکن للمصلحه فعل شیء على الإطلاق. بینما الخصوصیّه الثانیه تعترف بقدره العقل على تحصیل ظنٍّ موضوعی بالمصلحه أو المفسده، غایه الأمر لم تثبت له الحجّیه. وهذا وإنْ لم ینتج عنه حکمٌ شرعی، ومن ثمّ لا یصلح لمعارضه دلیلٍ شرعی، لکنّه ـ کما رأینا ـ یمکن أن یُسقط حجّیه ظنٍّ صدوری أو دلالی. وهناک فرقٌ بین سبیلٍ یثبت حکماً شرعیاً؛ لأنّه سبیل حجّه، فیعارض حجّهً أخرى؛ وسبیلٍ آخر لا یثبت ذلک، لکنّه یسلب سبیلاً حجّهً عناصرَ حجّیته.
والآن لننظر: هل سعى الطوفی لإثبات هاتین الخصوصیّتین؟
الجواب بالإیجاب؛ فقد اعتبر أنّ العقل لدیه قدره معرفه المصالح فی غیر العبادات؛ وفی المقابل اعتبر أنّ حدیث نفی الضرر یمنح شرعیّهً لهذا الإدراک العقلی عملیّاً. وبهذا کلّه نکتشف أنّ الطوفی لم یجتهد فی مقابل النصّ، کما صوّره بعضُ خصومه، بل طبَّق تماماً ما یطبِّقه سائر الفقهاء عند استخدامهم حدیث نفی الضرر فی مجال الأضرار، لا فی مجال المصالح والمفاسد؛ فهم یسمحون للعقل من جههٍ بإدراک الضرر ولو بسبیلٍ لا یبلغ رتبه الیقین القطعی، مثل: الرجوع لأهل الخبره؛ حیث یقبلون بقول أهل الخبره فی إثبات ضرریّه الصوم مثلاً، ثم یستخدمون حدیث نفی الضرر لنفی وجوب الصوم فی هذه الحال. والذی فعله الطوفی هو العملیّه نفسها، فسمح للعقل بإدراک المصلحه والمفسده إدراکاً بالعلم العادی، ثم منح هذا الإدراک حجّیهً وتأثیراً على تقیید سائر الأحکام بحدیث نفی الضرر، بعد أن فسَّره بمعنى المصلحه والمفسده.
بل بإمکان الطوفی هنا أن یناقش الفضاء الحنبلی والمالکی عامّه، بأنّکم عندما اعترفتم بحجّیه المصلحه المرسله آمنتم بإمکان العبور من إدراک المصلحه إلى إدراک الحکم الشرعی، وعملیّه وعی المصلحه عقلیّاً لا فرق فیها بین وجود نصٍّ وعدمه. فالعملیه نفسها التی مارستموها فی مورد الإرسال یمکننی أن أمارسها فی مورد النصّ. فهل العقل هناک غیر العقل هنا؟! وهل میکانیزما الاکتشاف هناک غیرها هنا؟! ألیس من المنطقیّ فی فضاءٍ حنبلیّ یؤمن بالمصالح المرسله وسدّ الذرائع أن تکون المصلحه منکشفه لنا، فلماذا تنکشف لنا حال فقدان النصّ ولا تنکشف حال وجوده؟ وما هو الفارق المعرفی والوجودی هنا؟ نعم، غایه ما فی الأمر أنّ النتیجه هنا سوف تعارض نصّاً، وقد رأینا أنّ معارضه نصٍّ لا تعنی سوى معارضه دلیلٍ لدلیل آخر، فینبغی إجراء قواعد التعارض هنا، ولیس سلب الوعی العقلی بالمصلحه أصلَ وجوده من الأوّل أو حجّیته، إلاّ بدلیلٍ منفصل، أو بإثبات قصور دلیل حجّیته عن الشمول لغیر حاله الإرسال (وهو ما یمکن ادّعاؤه جزئیّاً فی بعض أدلّه حجّیه المصلحه).
وبهذا نکتشف أنّ الأخذ على الطوفی کونه اجتهد فی مقابل النصّ غیر صحیح، وخاصّه فی الفضاء السنّی. والغریب أنّ بعض نقّاد الطوفی یأخذ علیه أنّ نظریّته لیست سوى تقدیم نصٍّ على آخر، لا تقدیم المصلحه على النصّ، کما رأینا سابقاً؛ فیما بعضٌ آخر یأخذ علیه أنّه یجتهد فی مقابل النصّ! وفی ظنّی أن کلا الإشکالین غیر صحیح، ولو أُرید مناقشه الطوفی فالأفضل الذهاب نحو مفروضاته وأصوله وأدلّته مباشرهً.
۷ـ الشیخ أبو زهره وتهمه تقدیم الطوفی المصلحه على الدلیل القطعی
ورغم هذا کلّه، یبدو أنّ الشیخ محمد أبو زهره یعتبر أنّ مرکز الخلاف بین الفقهاء والطوفی هو أنّ الطوفی جعل مرکز التعارض قائماً بین النصّ قطعیّ السند والدلاله وبین المصلحه، لا بین النصوص الظنّیه سنداً أو دلالهً وبین المصلحه، وإلاّ فمَنْ قَبْلَه قبلوا بنوعٍ من التعارض وتقدیم المصلحه على النصّ فی حالات الظنّ، وهذا معنى موافقه مالک على تخصیص الظنّ بالمصلحه، بل هذا معنى أنّهم یعتبرون الخبر الآحادی شاذَّ المتن عندما یعارض مصلحهً أیضاً، فلا یأخذون به().
معنى هذا الکلام أنّ ما یختلف فیه المشهور مع الطوفی هو النصوص القطعیه سنداً ودلالهً. وهذا ما سوف یعقِّد الموقف أمام الطوفی جدّاً، ویجعله بالفعل فی مقابل النصّ! فهل صحیحٌ أنّ الطوفی یدّعی ذلک؟ ولو ادّعاه فهل یکون کلامه غریباً أیضاً، أو یمکن فرض تخریجٍ له لو صحّت أصوله ومبتنیاته التحتیّه دون التورُّط فی الاجتهاد فی مقابل النصّ؟
وبالذهاب أکثر عمقاً فی ما طرحه الطوفی یمکن أن تثار أسئلهٌ مشروعه، وهی: إنّ الطوفی حیث کان هناک إدراک للمصلحه کان لا یتعقّل حجّیه النصّ؛ لأنّ النصّ مبنیٌّ على عدم معارضه المصالح، لکنّ السؤال الأکثر جدّیهً أمام الطوفی هو: کیف تسنّى للعقل أن یُدرک المصلحه وهو یرى نصّاً ـ وخاصّهً القطعیَّ منه ـ على خلاف إدراکه؟
إنّ السؤال هنا منقلبٌ على الطوفی، فبَدَل أن یقول لنا: کیف اقتنعتم بوجود حکمٍ شرعیّ مع أنّه منافٍ للمصلحه؟! نقول نحن له: کیف اقتنعت بمنافاه المصلحه فی مورد وجود دلالهٍ من نصٍّ؟!
لعلّ ما یرجّح کلام أبو زهره هو أنّ الطوفی نفسه یصرِّح بأنّه یتکلم عما هو أبعد من نظریّه المصالح المرسله، ویبدی نفسه وکأنّه مختلفٌ عن البقیّه. لکنّ نصوص الطوفی لا تساعد على افتراض الشیخ أبو زهره دائماً؛ فالرجل لم یُشِرْ إطلاقاً إلى فکره النصّ القطعی، بل بالعکس تعامل مع النصوص على أنّها مبهمهٌ فیما المصلحه قاطعه، وهذا یرجِّح أنّ نظره إلى نصوص تحتمل أوجهاً أخرى، ولیست قاطعه السند والدلاله.
بل ثمّه نصٌّ فی رساله الطوفی قد یکون شاهداً على عکس تفسیر أبو زهره له، حیث یقول: «وأمّا النصّ فهو إمّا متواتر أو آحاد، وعلى التقدیرین فهو إمّا صریح فی الحکم أو محتمل. فإنْ کان متواتراً صریحاً فهو قاطعٌ من جهه متنه ودلالته، لکنْ قد یکون محتملاً من جهه عمومٍ أو إطلاق، وذلک یقدح فی کونه قاطعاً مطلقاً. فإنْ فُرض عدم احتماله من جهه العموم والإطلاق ونحوه، وحصلت فیه القطعیّه من کلّ جهه، بحیث لا یتطرّق إلیه احتمالٌ بوجهٍ، منعنا أنّ مثل هذا یخالف المصلحه، فیعود إلى الوفاق. وإنْ کان آحاداً محتملاً فلا قطع. وکذا إنْ کان متواتراً محتملاً، أو آحاداً صریحاً لا احتمال فی دلالته بوجهٍ؛ لفوات قطعیّته من أحد طرفَیْه، إمّا متنه أو سنده»().
فهذا النصّ یبدو مانعاً عن الخروج باستنتاج أبو زهره لمقصود الطوفی. فالطوفی یرفض أن یکون النصّ القطعی من تمام جهاته مخالفاً للمصلحه، وهو بهذا لا یرى موضوعاً لنظریّته فی دائره القطعیّات النصّیه، فکیف یناقشه أبو زهره بأنّ محلّ نزاعه لیس سوى القطعیّات؟!
ولو سلّمنا أنّ الرجل یتحدّث عن النصوص القطعیّه تماماً فإنّ کلامه یظلّ یحظى بقدر من المعقولیّه فی التصویر؛ وذلک أنّ الطوفی یرید أن یفتح ثغرهً فی قطعیه النصّ عند معارضته للمصلحه؛ لا فی حجّیه النصّ القطعی بعد المعارضه. فالنصّ لولا المعارضه کان قطعیّاً، لکن بمجرّد أنّه عارض مصلحهً فهذا یجعله فی دائره الإبهام، ولهذا عبّر عنه الطوفی بالمبهم. ومرجع کلام الطوفی إلى اعتباره النصوص والدلالات ذات خاصره رخوه، بمعنى أنّها قابله لاهتزاز الیقین بها نتیجه دخول أیّ عنصر إضافی على الخطّ، وهذا هو مسلک العدید من الهرمنوطیقیّین، بل والأصولیّین أیضاً؛ فالیقینیّه متفرّعه على رصد تمام العوامل الداخلیّه والخارجیّه فی النصّ، ودخول عنصر معارضه المصلحه یهدم هذه الیقینیّه، فعندما یعارض النصُّ القطعی ـ لولا المعارضه ـ المصلحهَ فهو فی الحقیقه یعارض نصّاً آخر، وهو حدیث لا ضرر، کما یعارض عنده الکثیر من نصوص التعلیلات وبناء الأحکام على المصالح، ویعارض النزعه المقاصدیّه التی تجعل العبره بالمقاصد، لا بالوسائل. فهذه العناصر المجتمعه تُحدث فی النصّ القطعیّ اهتزازاً فی قطعیّته، وبهذا یمکن التخلّی عن إطلاقه بعد ذلک.
لستُ أرید الانتصار للطوفی بقدر ما أرید محاوله فهمه بطریقهٍ معقوله، وإلاّ فالحدیث عن إمکانات العقل سوف یأتی التعلیق علیه، وهل العقل بمعارضه نصّ قطعی ـ لولا التعارض ـ یمکنه أیضاً أن یدّعی الیقین أو حتّى الظنّ فی قضایا عملیّه متشابکه ومعقّده أو لا؟
۸ـ الطوفی والشیعه وفکره النسخ والتخصیص بعد النبیّ
یتّهم الإمامُ محمد أبو زهره الطوفـیَّ بأنّه أخذ أو التقى بفکرته التی طرحها مع الشیعه. ویشرح هذه القضیّه من خلال قوله بأنّ الشیعه یقولون بالنسخ والتخصیص للشریعه المحمَّدیّه بعد وفاه النبیّ| من قبل الأئمّه، اعتماداً على الاجتهاد. وإنّ تخصیص الطوفی الشریعه بالمصلحه یلتقی مع تخصیص الشیعه لها بالاجتهاد الصادر من أئمّه أهل البیت(). کما یعتبر الدکتور محمد یوسف موسى أنّ نظریّه الطوفی تفتح باب النسخ بعد وفاه النبیّ|، الأمر المرفوض جملهً وتفصیلاً().
ولست هنا بصدد الحدیث عن مذهب الطوفی، فهذا ألمحنا له سابقاً. لکنّ ما یهمّنی هو شرح فکره الطوفی، وتصوُّر الشیعه لأئمّتهم؛ لأکتشف أنّ أبو زهره أخطأ فی فهم الاثنین معاً:
۱ـ أمّا الشیعه، فلا یقولون بتخصیص الشریعه النبویّه بالاجتهاد الصادر عن أئمّه أهل البیت عبر علومٍ تلقّوها، بل هم منقسمون فی هذه القضیّه:
فبضعهم لا یرى أنّ أهل البیت یقومون بإضافه أیّ شیء على الشریعه الوارده فی الکتاب والسنّه، وإنّما یمارسون شرحاً لها. وانطلاقاً من عصمتهم فإنّ شرحهم لها هو الشرح مضمون الصحّه وسط شروحات المسلمین الأخرى. ووفقاً لهذا الفریق لا یوجد تخصیص ولا نسخ للقرآن، ولا للسنّه النبویّه.
أمّا الفریق الآخر، فرغم کونه یعتقد بأنّ الأئمّه لدیهم ولایهٌ تشریعیّه، وکأنّهم یقبلون بأنّ الشریعه لم تصدر لعموم الناس کلّها، لکنّهم یعتقدون بأنّ الجزء المتبقّی من الشریعه قد اختصّ النبیّ أو الله سبحانه وتعالى به أهل البیت؛ لکی یبیِّنوه للناس بالتدریج. فالمخصِّص الصادر من أحد أئمّه أهل البیت لیس منطلقاً من الاجتهاد، کما تصوّر أبو زهره، بل هو مأخوذٌ من النبیّ أو الإلهام الإلهی، وهو جزءٌ من الشریعه المحمَّدیه من الأصل، غایه الأمر أنّ البیان له قد تأخّر إلى ما بعد وفاه النبیّ.
وقد بحثنا هذا الموضوع بالتفصیل، وقلنا بأنّ أهل البیت لیس لهم ولایه تشریعیّه، بل همّ شُرّاحٌ للکتاب والسنّه. نعم، لهم ولایهٌ تدبیریّه على مستوى إداره السیاسه الشرعیّه().
۲ـ وأمّا الطوفی، فالرجل لا یقول بنسخ الشریعه بالمصلحه ولا بتخصیصها بها بعد وفاه النبیّ، بل کلّ ما یراه أنّ حدیث نفی الضرر أصّل لمرجعیّه معرفیّه جدیده هی المصلحه. وهذا یعنی أنّه کلّما خالف النصّ المصلحه انکشف أنّه لیس فیه إطلاق شامل لهذه الحال، أو أنّ إطلاقه غیر حجّه. وما الفرق بین طرح الحدیث لشذوذ متنه بمخالفته المصلحه والمقاصد الشرعیّه وبین طرح إطلاق الحدیث لشذوذه بمخالفته المصلحه الشرعیّه؟! فلماذا قبل أبو زهره من البقیه فعل ذلک فی الحدیث، ولم یقبل من الطوفی؟! وأمّا قصّه النصّ قطعیّ السند والدلاله فقد توقَّفنا عندها قبل قلیلٍ، فلا نعید.
فما ذکره أبو زهره مؤاخذاً الشیعه والطوفی معاً فی غیر محلّه.
۹ـ البوطی وتناقضات الطوفی
یلاحظ الشیخ البوطی على الطوفی وقوعه فی التناقضات. ویذکر لذلک مثالین عمده، یرى أنّه لو لاحظناهما فهما «کافیان لإسبال حجاب الإهمال على مجموع أدلّته وبراهینه التی ساقها إلى دعواه».
وهذان المثالان هما:
أـ صرّح الطوفی فی بدایه رسالته بأنّ أدلّه الشرع تسعه عشر، وذکر منها المصلحه المرسله، ثم قال بأنّ أقوى هذه الأدلّه هو الکتاب والسنّه، ثم لما تحدّث عن معارضه المصلحه للکتاب والسنّه والإجماع قدّم المصلحه على النصّ والإجماع، فکیف یکون النصّ والإجماع أقوى الأدلّه، ثم تکون المصلحهُ، التی هی من سائر الأدلّه، مقدّمهً علیهما فی الوقت عینه؟!
ب ـ إنّه یقول فی تفسیر حدیث لا ضرر بأنّ معناه أنّه «لا لحوق ضرر شرعاً إلاّ بموجب خاصّ مخصِّص»، ثم بعد ذلک یجعل المصلحه مقدّمه على کلّ الأدلّه، فإذا کان هذا حال المصلحه، فمَنْ هو الذی سوف یقوم بتخصیص دلیل نفی الضرر؟!().
کما أخذ الدکتور مصطفى زید على الطوفی تناقضه حین اعتبر أنّ المصلحه متَّفقٌ علیها، وفی الوقت عینه تحدّث آخر الرساله عن تعارض المصالح والمفاسد، لیضع لها حلاًّ، فکیف تکون المصلحه متَّفقاً علیها، وتکون مثل هذه المعارضات قائمه؟!().
ولکنّنی أعتقد بأنّ إشکالیّه المفارقه فی کلمات الطوفی غیر مقنعه؛ وذلک:
أوّلاً: إنّ تهافت کلامه فی موضوع أقوائیّه النصّ والإجماع على المصلحه مع قضیّه المصلحه المرسله لا یصلح تناقضاً؛ لأنّ کلامه متّصل واضح فی أنّه ما یزال بصدد التوضیح، فیوضِّح بعضه بعضاً. وإلاّ فالإشکال فی محلّه، وخاصّه نتیجه ما قلناه سابقاً، من أنّ میکانیزما الاجتهاد فی المصلحه المرسله هی بعینها فی المصلحه فی مورد النصّ، إلاّ إذا قال الطوفی بأنّ أقوائیّه النصّ والإجماع فی مورد التعارض مع سائر الأدلّه، والمفروض أنّ المصلحه المرسله لا موضوع لتعارضها مع النصوص؛ لأنّ موضوعها انعدام النصّ، فیرتفع الإشکال عن الطوفی.
ثانیاً: إنّ المثال الثانی یشکّل نقداً قویّاً على الطوفی لو صحّ، ولیس مجرّد تهافت بیانی، کما فی المثال الأوّل لو صحّ. لکنّ البوطی فی تقدیری لم یلتفت إلى مراد الطوفی. وما یوضِّح مراده هو مراجعه ما توصَّلت إلیه آخر أبحاث علم أصول الفقه عند الإمامیّه. فالطوفی اعتبر أنّ حدیث نفی الضرر یخصِّص جمیع الأدلّه الأوّلیه، وفی الوقت عینه لاحظ أنّ هذا الحدیث لو تمّ فسوف یواجه أدلّهً تشرِّع الضرر بکلّ صراحه، بل هی ناظرهٌ وخاصّه بقضایا الضرر، فأراد أن یفصل التشریعات الضرریّه عن التشریعات غیر الضرریّه بذاتها، فجعل حدیث نفی الضرر مخصِّصاً لکلّ النصوص التی تقدّم تشریعات غیر ضرریّه بذاتها، کالوضوء والغسل والصلاه، فیما أخضع حدیث نفی الضرر، فخصَّصه بالأدلّه الدالّه على التشریعات الضرریّه بذاتها، من نوع العقوبات والحدود، فلا یصحّ إشکال البوطی علیه.
بل نصُّ الطوفی واضحٌ فی تمییزه للأمور، حین یقول متحدّثاً عن مقتضیات النصّ والإجماع ـ والغریب أنّ البوطی نقل هذا النصّ عنه أیضاً ـ: «وإنْ اقتضیا ضرراً فإمّا أن یکون الضرر مجموع مدلولیهما أو بعضه؛ فإنْ کان مجموع مدلولیهما فلا بُدَّ أن یکون من قبیل: ما استثنی من قوله علیه الصلاه والسلام: لا ضرر ولا ضرار، وذلک کالحدود والعقوبات على الجنایات؛ وإنْ کان الضرر بعض مدلولیهما فإنْ اقتضاه دلیلٌ خاصّ اتّبع الدلیل؛ وإنْ لم یقتضه دلیلٌ خاصّ وجب تخصیصهما بقوله علیه الصلاه والسلام: لا ضرر ولا ضرار؛ جمعاً بین الأدلّه».
فنحن نلاحظ الطوفی یمیّز بین التشریعات الضرریّه بذاتها والتی تکون أدلّتها متمحّضه لما هو ضرریّ، وبین غیرها، فیخصِّص أدلّه التشریعات بلا ضرر، بینما یخصِّص لا ضرر بدلیل التشریع الضرری بذاته، کالعقوبات.
وهذه هی الفکره التی تناولها الأصول الشیعیّ لاحقاً تحت عنوان تفسیر التشریعات الضرریّه فی ضوء کلّیه وحکومه قاعده لا ضرر على مختلف التشریعات، وسلکوا فی ذلک مسالک متعدِّده، وکانوا بصدد رفع الوهن المتصوَّر على حدیث لا ضرر من حیث کثره التخصیصات العارضه علیه.
وبهذا یظهر أنّ الطوفی لم یتورّط فی أیّ خطأ. لکنْ مع ذلک یمکننا أن نأخذ علیه هنا خلطه بین تفسیر حدیث نفی الضرر بالضرر بالمعنى الخاصّ، وهو النقص فی النفس أو البدن أو الأطراف أو المال، وبین الضرر بمعنى المفسده فی مقابل المصلحه؛ فإنّ محاولته ترتیب العلاقه بین حدیث نفی الضرر وسائر الأدلّه بنوعَیْها: المتمحّض للضرر وغیره، ینبغی أن یقوم على التفسیر الخاصّ لفکره الضرر، وهو التفسیر الذی لا ینفع الطوفی فی أصل نظریته فی تقدیم المصلحه على النصّ. أمّا لو فهمنا الضرر بمعنى المفسده فی مقابل المصلحه فإنّه لن یکون هناک تخصیصٌ لحدیث نفی الضرر؛ لأنّ التشریعات الضرریّه بعنوانها، کالحدود، لیست مفسدهً، بل هی مصلحه حتّى لمَنْ یقع علیه الحدّ فی کثیر من الأحیان، فضلاً عن غیره. إلاّ إذا قیل بأنّ الطوفی فهم من الضرر فی الحدیث الأعمّ من معنى النقص والمفسده!
۱۰ـ مفارقه التخصیص بالمصلحه مع إباء النصوص عن التخصیص
هذه المداخله قدَّمها الشیخ البوطی، حیث ذهب إلى أنّه لو فرضنا أنّ الطوفی یقصد معارضه المصلحه للنصّ بنحو التخصیص، لا بنحو النسخ، فإنّ النصوص التی بین أیدینا آبیهٌ عن التخصیص الزائد، بمعنى أنّ النصّ القرآنی ونصوص السنّه والإجماع وسیره الصحابه بأقوالهم وأفعالهم وسکوتهم وغیر ذلک قد أنهى مجال التخصیص، فلو کان ثمّه تخصیصات للعمومات غیر ما وصلنا فکیف سکت النبیّ والصحابه عن التخصیص، ولم یشرحوه لنا، ممّا یکشف عن أنّ هذا التخصیص غیر وارد على العامّ، وإلاّ لزم من ذلک جهل الصحابه بمدلولات النصوص والقدر المراد منها، أو أنّ علینا أن نلتزم بالنسخ، وهو واضح الفساد(). وبعبارهٍ أخرى: إنّ کلام الطوفی معناه أنّ التخصیص مستمرٌّ فی النصوص إلى یوم القیامه، ویمکن أن یطرأ علیها بشکلٍ متواصل ودَوْری.
لکنّ هذه المحاوله النقدیّه غیر مبرهنه فی القاعده التی تقوم علیها؛ وذلک:
أوّلاً: مَنْ قال بأنّ هذا التخصیص الذی مارسناه نحن بالمصلحه لم یصدر عن النبیّ أو الصحابه، بحیث لم یصلنا، أو لم نفهمه نحن من النصوص بعد، فهل وصلتنا کلّ تفاصیل الوقائع والأقوال التی تحقَّقت فی القرن الهجریّ الأوّل؟! إنّ هذه دعوى کبیره فی أن نقول بأنّ المشهد التاریخی فی قضایا تتصل بتفاصیل الأحکام والنصوص هو کلّه تحت سلطاننا ومشهودٌ واضح لنا! بل لو کان الأمر کذلک فما معنى الاجتهاد فی ما لا نصّ فیه؟ وما معنى القیاس والمصلحه المرسله وسدّ الذرائع وغیر ذلک؟ فکیف نلجأ إلى کلّ هذه السبل الاجتهادیّه، مفترضین أنّ نتائجها لم تصدر فی الکتاب والسنّه، ولم یشرحها لنا الصحابه؟! وإذا کان النبیّ والصحابه قد وضعوا لنا معاییر من نوع القیاس والمصلحه المرسله وسدّ الذرائع والاستحسان وغیرها، مکتفین بوضع المعاییر فی إرشادنا لمعرفه الأحکام الشرعیّه، فإنّ الطوفی بإمکانه هنا أن یدّعی أنّ الشرع قد منحنا أیضاً ـ بحدیث لا ضرر ـ معیاراً لنقوم بتطبیقه بأنفسنا.
ثانیاً: إنّ بعض أشکال التخصیص والتقیید التی قد یدّعیها الطوفی لا موضوع لها فی تلک الأزمنه حتّى تصدر فیها نصوصٌ، کما فی کثیر من محاولات تطبیق نظریّه المصلحه فی العصر الحدیث. وتکفی نظریّه الطوفی قیمهً أنّها قادرهٌ على التدخّل فی الوقائع النازله والمسائل المستحدثه التی لم یکن لها موضوع فی سالف الأزمنه، ولکنّها تقع لفظاً ضمن عامّ أو مطلق. وفی هذه الحال عدمُ عثورنا على المخصّص لا یجعل النبیّ أو الصحابه مقصِّرین، ولا یسمح لنا بفرض انتهاء إمکانات التخصیص فی العمومات والتقیید فی المطلقات.
وعلیه، فهذه الإشکالیّه الناقده للطوفی فی غیر محلّها أیضاً.
۱۱ ـ مَدَیات منطقیّه التمییز بین العبادات والمعاملات عند الطوفی
التمییز بین العبادات والمعاملات ظاهرهٌ عرفها الفقهاء المسلمون منذ فجر تاریخ الفقه الإسلامی. وغالباً ما کان ینظر للعبادات على أنّها مکانٌ مغلق أسراری غیر مفهوم، فیما کانت المعاملات مسرحاً للتحلیل العقلانی البشری، وکانت یدهم مبسوطه فیها أکثر. وهذا شیء نجده فی أدبیّات الفقه الإسلامی إلى یومنا هذا.
الإشکالیّه تکمن فی أنّ الطوفی میَّز بین العبادات والمعاملات، باعتبار أنّ العبادات هی حقّ الله، فیما المعاملات هی شؤون بشریّه. وحقّ الله لا یُعْرَف إلاّ منه. وقد لاحظ الباحث مصطفى زید أنّ هذا التمییز غیر منطقی؛ فإذا کانت العبادات والمعاملات مبنیّه على المصالح فهی کذلک فی الاثنین معاً، فلا داعی للتمییز().
لکنّ الدکتور زید لم یأخذ بعین الاعتبار ادّعاء الطوفی أنّ إمکانات العقل فی العبادات ضعیفه، بخلاف المعاملات. فلم یغیّر الطوفی الموقف تبعاً للتمییز فی بناء العبادات والمعاملات على المصالح، بل هو یعترف بأنّها جمیعاً مبنیّه علیها، لکنّه لما أقرّ بعجز العقل عن معرفه المصالح فی العبادات؛ کون العبادات حقاً إلهیّاً لا یُعْرَف إلاّ به، التزم بهذا التمییز، ومن ثم فمداخله مصطفى زید غیر منطقیّه.
وهذا یعنی أیضاً أنّ الطوفی لیست مشکلته فی حکومه حدیث نفی الضرر على أدلّه العبادات، بل لم أجِدْ رفضاً منه لذلک. کلّ ما فی الأمر أنّ هذه الحکومه تحتاج فی مقام التنزیل إلى اکتشاف المصلحه والمفسده فی العبادات، الأمر غیر المتوفّر فیها. فالطوفی لیست مشکلته مع القواعد والتقعیدات، بل مشکلته میدانیّه بامتیاز هذه المرّه.
لکنْ بالعوده إلى الطوفی، هل کان منطقیّاً فی تمییزه إمکانات العقل بین المعاملات والعبادات أو لا؟
أعتقد أنّ إطلاق دعوى عجز العقل عن الولوج فی مجال العبادات غیر مفهومه وفقاً لبناءات أمثال الطوفی، وخاصّه أنّ بعض الشواهد التاریخیّه التی ذکرها عن الصحابه لتأسیس فقه المصلحه ترتبط بالعبادات. فبعض قضایا العبادات مما یبدو واضحاً فی أسراریّته، وهذا لا نشکّ فیه، لا أقلّ فی کونه أسراریّاً بالنسبه إلینا إلى الیوم، وفی حدود نموّ وتطوّر عقولنا وعلومنا؛ لکنّ بعضاً آخر یُفترض بعقلیّهٍ مصلحیّه، مثل: عقلیّه الطوفی، أن تقبل بإمکان کشفه، وخاصّه أنّ النصوص التعلیلیّه العامّه والخاصّه موجودهٌ فی العبادات کما هی موجوده فی المعاملات، والطبیعه الغامضه فی بعض المعاملات تشابه الغموض الذی فی بعض العبادات. فلماذا کانت الأیّام العشره الإضافیّه على الأشهر الأربعه فی عدّه المتوفّى عنها زوجها؟! ولماذا کان استبراء الأمه بحیضهٍ واستبراء المطلّقه بالعدّه الکامله؟! وإذا جعل الطوفی هذه الأشیاء من ضمن المقدّرات الشرعیه التی یرید إلحاقها بالعبادات فنحن نسأله: لماذا لم یکن الوضوء مفهوماً فی سیاق الدعوه إلى الدخول على الصلاه متنظِّفاً، أو لکون وضع الماء على هذه المواضع لمصلحه المزید من التنبُّه عند الإنسان وبعض النشاط فیه؟! ولماذا لا نفهم النهی عن الرفث فی الحجّ على أنّه لأجل مصلحه هجران الدنیا فی هذه الرحله الإلهیّه؟! ولماذا لا نفهم تشریع الصوم على أنّه ترویضُ النفس على الانقطاع عن شهوه البطن وتذکُّر الفقراء؟! ومن ثم لماذا لا تکون هذه مصالح مظنونه من وراء هذه العباده؟!
إنّ تهیُّب الطوفی دخول فضاء العبادات لیس مفهوماً من الزاویه الموضوعیّه، وإنْ کان مفهوماً لی من الزاویه النفسیّه، من حیث ارتباط العبادات والطقوس بالهویّه الدینیّه. ولهذا نرى أنّ الرئیس التونسی الأسبق الحبیب بورقیبه(۲۰۰۰م) تجرّأ فی ستینیات القرن العشرین ـ منطلقاً من فقه المصلحه ـ على القول بأنّ الصوم الیوم؛ حیث یضعف الاقتصاد ونحن بحاجهٍ للنهوض، وهو مصلحهٌ عالیه، لزم تجمیده أو تعدیله على العمّال، وحاول ثنی الحجیج عن الذهاب إلى مکّه؛ باعتبار ما یؤثِّره ذلک من خروج الأموال والنقود إلى الخارج وإضعاف الاقتصاد. وکونُ العبادات حقّ الله لا ینفی أن تکون جمیع التشریعات حقّ الله فی العباد أیضاً.
بهذا لا نفهم وجه التمییز على إطلاقه بین العبادات والمعاملات؛ بحجّه العجز عن الفهم تارهً؛ والقدره علیه أخرى. فلم أجد إلى الیوم فقیهاً أو باحثاً قدَّم لنا مقاربه تحلیلیّه معمَّقه لإثبات کلّیه هذا التمییز الرائج بین المسلمین.
۱۲ـ تحدّیات العقل، هل یمکن إعاده إنتاج نظریّه الطوفی مقاصدیّاً؟
کان أحد أکثر الإشکالات أهمّیه على نظریّه الطوفی هو قیاس درجه قدره العقل الإنسانی على اکتشاف المصالح()، بحیث یمکن من خلال طاقته تعطیل النصوص کلاًّ أو جزءاً. وقد سبق أن تحدّثنا عن هذا الموضوع فی أکثر من مناسبه. فعن أیّ عقلٍ یحدِّثنا الطوفی والفکر الإنسانی ما یزال مشغولاً منذ آلاف السنین بمعرفه المصالح من المفاسد، والخیر من الشرّ؟! وها هی مذاهب الفکر الرأسمالی واللیبرالی والاشتراکی والشیوعی والوجودی تتعارض وتتصارع فی فهم معنى الخیر والشرّ والعداله الاجتماعیّه وما فیه صلاح الإنسان وفساده. فمتى حسمت الأمور أو کانت بهذا المستوى من الوضوح والصفاء، حتّى نوکل الأمر إلى العقل فی معارضه مفاد النصوص؟!
بل حتّى على مستوى تنزیل الکلّیات العقلیه على مصادیقها نحن أمام معضلات کبرى، فی قضایا معقّده الیوم على المستوى الأخلاقی. وکلّ فریق یرى السلوک الأخلاقی على طریقته. وهذا کلّه یربک مَدَیات وثوقنا بقدره العقل على تعیین المصالح بمستوى یوقف النصوص نفسها.
إنّنی أعتقد أنّ هذه الإشکالیّه هی من أقوى الإشکالیّات، وبالأخصّ فی فضاء بعض النصوص الإمامیّه عن أهل البیت النبویّ، والتی تعتبر أنّ العقل عاجزٌ عن الفهم فی مجال الشریعه وملاکاتها. ومن ثم فنظریّه الطوفی تبقى مجرّد حالات قد تبلغ بالإنسان مستوىً عالٍ من الوثوق بتعیین المصلحه أو المفسده، لکنّها من الصعب أن تشکِّل ظاهرهً، فضلاً عن قاعده، ما لم نقم بالتعاون مع الطوفی فی إجراء تعدیل جَذْریّ لنظریّته، أو تفسیر مختلف لها.
وعملیّه إعاده إنتاج نظریّه الطوفی فی العصر الحدیث یمکننی أن أفهمها عبر إجراء أربعه توضیحات ضروریّه:
أـ أن نفهم المصلحه على أنّها عین الأغراض العلیا الشرعیّه المنصوصه أو شبه المنصوصه فی الشرع، أی هی المقاصد أو روح القانون. وهذا ما تساعد علیه ـ کما رأینا ـ بعض نصوص الطوفی. وبهذا نمیِّز بین مفهوم المصلحه المخارجه للشریعه والمصلحه المستنبطه منها عبر نصوص ملفوظه أو غیر ملفوظه.
ب ـ أن نجعل الاستناد لحدیث لا ضرر لیس تبریراً لتقدیم المصلحه المنفصله على النصّ، بل هو تبریر لنظریّه المقاصد نفسها، فی تقدیم المقاصد المستنبطه من الشریعه الملفوظه أو المستقرأه، على الأشکال والوسائل.
ج ـ أن نفهم تقیید المقاصد لکلّ النصوص على أنّه تقییدٌ متصل غیر منفصل. فکلّ نصٍّ یحمل معه تقییداً لُبِّیاً ضمنیّاً عرفناه من فهم المنظومه المقاصدیّه، وهذا التقیید هو عدم معارضه مفاد هذا النصّ لمقاصد الشریعه ومصالحها العلیا. فالنصوص تولد مقیّدهً، لا أنّ المصلحه المقصدیّه مقیّده بالنصّ.
وهذا التقیید هو منح أهمّیه للسیاقات الکلّیه للشریعه على الکلمات الملفوظه فی کلّ نصّ. ففصل کلّ نصّ عن السیاقات الکلّیه للشریعه هو الخطأ الذی یقع فیه الاجتهاد الشرعی، وذلک عندما یعتبر أنّه لا یتعامل فی کلّ موضوعه ومسأله فقهیّه إلاّ مع نصوصها، بمعزل عن السیاقات الزمکانیّه، وعن السیاقات الکلیّه للشریعه، سواء سمّیناها المقاصد أم غیرها.
وبهذا نفهم معنى قول الطوفی بأنّ تقدیم المصلحه على النصّ هو تقدیم وتخصیص بیان، ولیس افتئاتاً على الشریعه والنصوص.
د ـ أن نعی أنّ تقدیم المقاصد على النصوص، أو المصلحه على النصوص، لیس سوى تقدیم الأهمّ ملاکاً على الأقلّ أهمّیه. فنحن أمام نوع من التزاحم الملاکی الدائم، والنتیجه من وراء هذا التزاحم الملاکی هی انتصار الملاکات الأقوى، التی هی المقاصد والغایات والمآلات والأغراض، على الأضعف، التی هی خصوصیّات الطرق والوسائل.
عبر هذه التولیفه الرباعیّه یمکننی أن أدّعی بأنّ الطوفی لم یقُمْ سوى بالبدء بعملیّه تکوین نظریّه المقاصد بصیغتها المتطوِّره التی تنامَتْ مع الشاطبی. وهو بهذه الطریقه یتخلَّص من أزمه قدره العقل على تعیین المصالح؛ لأنّه یعتبر العقل هنا مجرّد أداه اجتهادیّه تطبیقیّه معاً. فالمصلحه وهویّتها وحدودها ومعاییرها یأخذها العقل من الشریعه، فیعرِّف المصالح فی ضوء الشریعه وما تراه هی من مصالح وما تریده هی منها. ومن ثم لا تأتی هناک مؤاخذه الشیخ البوطی على الشیخ الطوفی بأنّ المصلحه نعرفها بهَدْی النصوص، لا من العقول(). أمّا فی مجال التطبیق فلا یقوم سوى بإثبات أنّ هذه المصلحه الشرعیّه سوف تتعرَّض للخطر مع هذا الحکم أو ذاک. وهنا إذا وصل لرتبه الیقین بذلک فالأمر واضح، ولو کان یقیناً عادیاً؛ بینما لو وصل لدرجه الظنّ فإنّ هذا الظنّ بانخرام المقصد لو تمسَّکنا بإطلاق دلیلٍ هنا أو هناک سوف یؤدّی إلى سقوط الظنّ بالإراده الجدّیه للإطلاق فی النصوص، ممّا یسقطها عن الحجّیه لو بنینا على أنّ حجّیه الظنّ الدلالی مشروطه بعدم قیام ظنّ على خلافها؛ لأنّ التطابق بین الدلاله التصدیقیّه الأولى والثانیه، وکذلک بینهما وبین الدلاله التصوُّریه، لیس قاعدهً عقلیّه، بل هو خاضعٌ لسیاقات، ومن ثم لا یمکن الأخذ بالإطلاق فی هذه الحال؛ للشکّ الحقیقی فی انعقاده، وعدم حصول وثوق بذلک.
وبهذا نعید تشکیل نظریّه الطوفی بلا أیّ حَرَج، بناء على ثبوت نظریّه المقاصد. غایه الأمر أنّنا لا نوافقه على التمییز بین العبادات والمعاملات بالشکل الذی طرحه کما قلنا. وإلاّ فتقدیم المصالح المخارجه للنصّ والآتیه من مجرّد العقل المنفصل، دون حصول یقینٍ قاطع أو ظنٍّ معتبر بحجّیه هذا الاستنتاج العقلی، ممّا لا وجه له، ولا نوافق الطوفی علیه.
وأعتقد بأنّنا لو فهمنا الطوفی على أنّه استمرار وبدایه تحوّل لنظریّه المقاصد الشرعیّه، وفتره بدایات التحوّل تکون عادهً قاصرهً فی الکشف عن تمام الخصوصیّات فی النظریّه، فسوف یساعدنا ذلک على فهمه، وینهی النزاع بینه وبین المقاصدیّین على الأقلّ. وإلاّ فبصرف النظر عن الطوفی نطرح تفسیراً لنظریّته، ولا نجد فیه کلّ تلک المشاکل التی طرحت علیه.
من الطوفی إلى الخمینی، تحلیل فکره تقدیم المصلحه على النصوص
یحلِّل بعض الباحثین المعاصرین ـ وهو الأستاذ یحیى محمد ـ الموقف الإمامی من نظریّه الطوفی، فیعتبر أنّ نقاط الاختلاف تکمن فی ثلاثه عناصر:
العنصر الأوّل: فی تفسیر وفهم حدیث لا ضرر، حیث یفهمه الاجتهاد الشیعی الإمامی على أنّ المراد به الضرر. ولیس الضرر بموازٍ للمفسده، ولا بمواجهٍ للمصلحه، بل هو متداخلٌ معهما. ومن ثمّ فالحدیث لا یشیّد مرجعیّه المصلحه، بل مرجعیّه نفی الضرر.
العنصر الثانی: رفض الإمامیّه لنظریّه المصلحه المرسله. وهذا خلاف فی العمق بینهم وبین الطوفی الذی یحتاج لمثل انطلاقه نظریّه المصلحه المرسله ومبرّراتها؛ کی یتوصّل إلى ما توصّل إلیه فی موضوع معارضه النصّ للمصلحه.
العنصر الثالث: رفض الإمامیّه تخصیص أو تقیید أو نسخ النصوص بالعقل، وحصرهم ذلک بخصوص السمع. ویستشهد لذلک بقول السید عبد الحسین شرف الدین: «نحن الإمامیّه إجماعاً وقولاً واحداً لا نعتبر المصلحه فی تخصیص عامّ، ولا فی تقیید مطلق، إلاّ إذا کان لها فی الشریعه نصٌّ خاصّ یشهد لها بالاعتبار. فإذا لم یکن لها فی الشریعه أصلٌ شاهد باعتبارها، إیجاباً أو سلباً، کانت عندنا ممّا لا أثر له. فوجود المصالح المرسله وعدمها عندنا على حدّ سواء»().
وبهذا یخرج الباحث الموقَّر بنتیجهٍ تقضی بأنّ هناک تقاطعاً حادّاً بین الفکر الإمامی وفکر الإمام الطوفی، ولا یمکن أن یلتقیا ویتوافقا؛ لأنّهما یختلفان فی الأصول والأسس، خاتماً بالقول: «إنّ الرفض لنظریّه الطوفی لدى الوسط الإمامی الاثنی عشری هو على أشدّه، فهذا الاتجاه یمنع الأخذ بالمصلحه من حیث الأصل، ما لم تکن قطعیّه، فکیف إذا ما کانت على حساب النصّ؟!»().
وما أفاده حفظه الله صحیحٌ. بَیْدَ أنّه یمکننا أن نضیف مسألهً مهمّه أخرى أیضاً، وهی أنّ الذهنیّه الأصولیّه الشیعیّه، فضلاً عن الأخباریّین منهم، تعتبر الظنّ ـ بمفهومه المختلف عن الیقین وعن الاطمئنان ـ فاقداً للحجّیه، ویحتاج إلى ما یُسعفه لیکون حجّه، وأنّ القاعده تقتضی عدم حجّیه غیر الیقین ما لم یکن هناک دلیلٌ على حجّیته، وأنّ الأدلّه الشرعیّه قامت على حجّیه عدد محدود من الطرق الظنّیه، مثل: أخبار الآحاد والظهورات اللفظیّه، ومن ثمّ فلیس هناک قاعدهٌ عند مشهور الإمامیّه اسمها مبدأ حجّیه الظنّ فی الفروع، والتی نلمحها فی کلمات الطوفی. ولا نستثنی من الإمامیّه فی هذا الأمر عدا مدرسه الانسداد القائله بحجّیه مطلق الظنّ، والتی لم تَحْظَ بحضورٍ قویّ على امتداد التاریخ.
وعلى أیّ حال، هذا التصویر الذی یقدِّمه لنا یحیى محمد سرعان ما یتحوّل، حیث یعتبر أنّ تحوّلاً حقیقیّاً حصل عند الإمامیّه فی القرن العشرین، وذلک مع ظهور الإمام الخمینی، باعتبار أنّه أثر على تعدیل اتجاه السیر فی الاجتهاد الإمامیّ نتیجه ضغط الواقع عقب الانطلاق بمشروع الدوله الإسلامیّه. ونقطه الأوج فی هذا التعدیل هی موافقه الإمام الخمینی على ما طرحه الإمام الطوفی فی تقدیم المصلحه على النصّ عند التعارض.
ولم یکتفِ السید الخمینی بطرح الفکره نظریّاً، بل إنّه مارس تطبیقات لها فی القرارات والمواقف التی اتّخذتها الدوله الإسلامیه التی أسّسها فی إیران. ویستشهد یحیى محمد لهذا التحلیل بکلام الشیخ محمد إبراهیم الجناتی، أحد الفقهاء المعاصرین، حین یعتبر أنّ الإمام الخمینی یُعَدّ صاحب طریقه جدیده فی الاجتهاد، لم یسبق أن اختارها أحدٌ فی الوسط الإمامیّ، وخاصّه بعد إقراره بتأثیر عنصر الزمان والمکان فی الاجتهاد الشرعیّ.
إنّ نقطه امتیاز السید الخمینی أنّه لم یَخْشَ من العمل بالمصلحه الراجعه لقضایا الدوله والنظام وتقدیمها على مفادات النصوص، فهو یقیِّد تقدیم المصلحه على النصّ بخصوص حالات نظام الحکم وحاجات الدوله، ولا یُطلق فکره التقدیم، کما فعل الطوفی. ورغم ذهاب بعض علماء الإمامیّه المتأخّرین لفکره الأحکام الولائیّه، وإطلاق مقوله منطقه الفراغ، من مثل: السید محمد باقر الصدر، لکنّ الصدر لم یقُمْ بالحدیث عن نفوذ حکم ولیّ الأمر فی غیر حالات منطقه الفراغ، رافضاً أن یدخل مجال نفوذه إلى منطقه الإلزامات والتشریعات، کالوجوب والحرمه.
وما یوضِّح لنا ذهنیّه السید الخمینی أنّه أطلق الید للعقل الإنسانیّ فی النظر فی المصالح بأدواته، بعیداً عن النصوص، فأسَّس مجمع تشخیص مصلحه النظام، مستنطقاً الواقعَ بعیداً عن النصّ. کما اعتقد بتقدیم الحکومه والدوله على سائر الأحکام الأوّلیّه، رافضاً إخضاع نشاط الدوله للعناوین الثانویّه. بل السید الخمینی یصرّح بأنّ الدوله بإمکانها عندما ترى ما یرجع لمصلحه النظام فی ذلک… بإمکانها فسخ العقود والمعاهدات مع الآخرین، بل لها تجمید العمل بالشریعه ـ عبادهً کانت أم غیر عباده ـ، کتعطیلها الحجّ عندما یخالف صلاح الدوله الإسلامیّه (والسیّد الخمینی قد عطّل الحجّ بالفعل فی أعقاب حادثه مکّه عام ۱۹۸۷م، کما تمّ تعطیل نظام الجِزْیه والذمام).
ویختم الباحث یحیى محمد فکرته بالقول: «بهذا یتبیّن مدى الاتفاق الذی یجمع بین الطوفی والخمینی، مع أنّ الأوّل لاقى فی حیاته الکثیر من المتاعب على آرائه وأفکاره، بخلاف الثانی الذی ما زالت آراؤه مورد توسعه واعتماد وتنفیذ. وبالتالی إنّ سرّ العلاقه (التی) جعلتنا نجمع بین هذین الفقیهین هو ما انفردا به من اجتهادٍ خاصّ رجّحا فیه المصلحه العقلیّه على النصّ عند تعارضه معها، أی إنّهما أجازا تغییر حکم النصّ بهذه المصلحه. ومعلومٌ أنّه لم یقُلْ بذلک أحدٌ قبل الطوفی ولا بعده من الفقهاء، سوى روح الله الموسوی الخمینی، فتلک هی العلاقه التی تربط بین فقیهین ینتمیان إلى مذهبین وزمانین مختلفین: أحدهما معاصر ومؤسّس لدولهٍ إسلامیّه؛ والآخر عاش منذ سبعه قرون مضت»().
بعد ذلک یضعنا الباحث یحیى محمد فی سیاق تحوُّلات التجدید الفقهی عند الشیعه بعد التجربه الإیرانیّه، فیرى أنّ الفقه بدأ یتأثَّر بالواقع، وأنّ هذا الأمر کان قد حصل فی الوسط السنّی قبل ذلک، ویعتبر أنّ مواقف السید الخمینی ومدرسته کانت مهمّه لتحقیق انتقال الفقه الشیعی من مرحلهٍ إلى أخرى، رغم المحافظه على الفقه الجواهری، وبدأنا نرى أنّ الدوله فی إیران أخذت تسنّ سلسله من القوانین التی لا وجود لها فی الشریعه، مثل: الإلزام بتسجیل عقود الزواج فی الدوائر الرسمیّه، والإلزام بغرامات تأخیر تسدید الدیون للبنوک، والتخلّی شیئاً فشیئاً عن شرط الاجتهاد فی القاضی، وکذلک فتح باب محاکم الاستئناف، والمفروض أنّ الاستئناف یناقض مبدأ قطعیّه حکم القاضی الأوّل. وبهذا یکون الباب الذی فتحه الخمینی بجرأهٍ، ممّا لم یکن أحدٌ قادراً على طرقه…، قد أحدث وما یزال تحوُّلاً کبیراً فی الاجتهاد الشیعی، وأدّى ذلک لطروحاتٍ کثیره فی تعدیل مناهج الاجتهاد وتاریخیّه النصوص والزمان والمکان وغیر ذلک، من نوع موضوع دیه العاقله، والشطرنج، وحرمه بیع الدم، وذبح الأضحیه خارج مِنى، وفقه الاحتکار، والعناصر الزکویّه، والدعوه لتحدید النسل. وبهذا تحوَّلت إیران نحو تشکیل ذوقٍ فقهیّ جدید لم یکن یعرفه الشیعه من قبل().
بین الطوفی والخمینی، قراءهٌ مقارنه فی عناصر الالتقاء والتمایز
هذه عصاره ما طرحه هذا الباحث فی هذا الموضوع. وقد سبق لی أن کانت لدیّ تعلیقاتٌ موجزه على هذه القضیّه، احتملتُ فیها تقارب الرجلین، دون أن أجزم بذلک(). لکنّنی هنا أتصوَّر أنّ بینهما اختلافاً فی سعه النظریّه من جههٍ، وتقارباً قویّاً من لبّ الفکره من جههٍ ثانیه، وتنوُّعاً فی طریقه مقاربه الموضوع من جههٍ ثالثه:
۱ـ أمّا مقارنه نفس النظریّتین مع بعضهما من حیث السّعه والنطاق، فنحن نلاحظ أنّ النسبه بین نظریّتی الطوفی والخمینی هی العموم والخصوص من وجه؛ ففیما لا یجد السید الخمینی حَرَجاً فی تقدیم المصلحه على النصّ، ولو فی العبادات، کما جاء فی رسالته الشهیره للسید علیّ الخامنئی عقب خطبه الجمعه للأخیر()، بما یجعل نظریّته أوسع من نظریّه الطوفی، ونصوصه واضحه هنا، وخاصّه فی مثال الحجّ، لکنّه یجری نظریّته هذه فی خصوص ما یتّصل بمصالح الدوله، وبهذا تکون نظریّته من جههٍ ثانیه أخصّ من نظریّه الطوفی.
وبتعبیرٍ آخر: إنّهما یشترکان فی تقدیم المصلحه على النصّ فی دائره مصالح الدوله والنظام الإسلامیّ؛ فیما یمتاز الخمینی عن الطوفی فی توسعته مجال التقدیم للعبادات، وهو ما رأینا أنّ الطوفی لا یوافق علیه؛ بینما یمتاز الطوفی بتوسعته ـ حَسْب ظاهر کلامه ـ تقدیم المصلحه على النصّ لغیر قضایا الدوله ومتطلّبات النظام الإسلامی. وبهذا یلتقیان ویفترقان فی سعه نظریّتهما.
۲ـ أمّا تقاربهما فی لبّ الفکره، فأعتقد بأنّه لا ینبغی التشکیک فی ذلک، بصرف النظر عن تخریج کلّ واحدٍ منهما للقضیّه، ومدخله فی تناول الموضوع، وزاویه رؤیته له، وبصرف النظر عن تفسیر کلمه المصلحه ومعناها، ممّا أسلفنا محاوله تفسیره عند الطوفی. فأصلُ القضیّه، عنیتُ تقدیم المصلحه (بمفهومها المجمل الآن) على النصّ فی إطلاقه أو عمومه، هو أمرٌ مشترک بینهما من حیث الناتج، وطبعاً فی دائره القضایا السلطویّه.
۳ـ وأمّا تنوُّع مقاربه الموضوع، وهو الأمر الأهمّ بالنسبه إلینا هنا، فإنّنا نلاحظ أنّ الطوفی ینطلق فی مقاربته للموضوع من عنصر نفی الضرر فی أصل الشرع، وعنصر تقدیم المقاصد على الوسائل، وعنصر أقوائیّه سبیل المصلحه من سبیل النصوص والإجماعات، وهو بهذه النتیجه یقوم بتخصیص أو تقیید النصوص، وقد یقوم بطرح حجّیه خبر آحادی مثلاً.
هذا المشهد الذی رأیناه مع الطوفی لا نرى شبیهه مع الخمینی؛ لأنّه لا یقارب الموضوع بهذه الطریقه، بل السید الخمینی لا یفهم حدیث لا ضرر فی سیاق المصلحه والمفسده، کما هو واضح من بحوثه فی قاعده لا ضرر، ولا یوظِّف أصلاً کلمه المقاصد والوسائل فی بحوثه ومحاضراته وبیاناته وکلماته…، بل یقاربه من زوایا أُخَر.
ولتوضیح تصوُّره یمکننا تسلیط الضوء على بعض کلماته؛ لفهمه بشکل أفضل، وذلک:
۱ـ یلاحظ من بعض نصوص الإمام الخمینی أنّه یصرّ على عدم مخالفه الشرع وأحکامه، لکنّه یطالب مجلس صیانه الدستور بأن یلاحظ ضرورات البلاد التی یلزم مراعاتها إما من خلال العناوین الثانویّه أو من خلال ولایه الفقیه(). وفی رسالته التی أدَّتْ إلى تشکیل مجمع تشخیص مصلحه النظام یؤکِّد أنّ قضیّه مصلحه النظام قد تشکّل أهمّ تحدٍّ یواجه التجربه الإسلامیّه فی السلطه، ویمکنها تعریه هذه التجربه لو وقعنا فی أیّ خطأ().
هذا الکلام یحضر فی تصوّرنا مقوله الضروره. لکنّ السید الخمینی یتعامل مع الضرورات السیاسیّه والمجتمعیّه عبر سبیلین: العنوان الثانوی؛ وولایه الفقیه. ومعنى ذلک أنّ ولیّ الأمر؛ حیث له ولایه ممنوحه من الشرع نفسه، فإنّ نفس هذه الولایه أو رُبَما دلیل جعلها الشرعی یقدَّم على الأدلّه الأوّلیه، فیمکنه التصرّف فی الأمور بما هو تحت ولایته؛ لتحقیق الأغراض التی جعلت الولایه لها.
وبهذا نلاحظ حضور ثلاثه أفکار فی غایه الأهمّیه:
أـ إطلاق ولایه الفقیه ومرجعیّه دلیل جعل الولایه فی ذلک.
ب ـ ضروره النظر إلى نتائج التشریعات على المستوى الاجتماعی، وقدرتها على تحقیق أهداف الشریعه وغایاتها.
ج ـ مفهوم الضروره بمعناه العامّ، لا الجزئی الفردی.
۲ـ فی موضوعٍ آخر، یصرِّح الخمینی بقضیّه یعتبرها واضحهً وبسیطه، وهی أنّ مصالح النظام تقدّم على جمیع الأشیاء(). وهذا الکلام یضعنا مرّهً أخرى فی سیاق نوع من التزاحم أو الضروره أو تقدیم الأهمّ ملاکاً.
۳ـ فی نصٍّ ثالث بالغ الأهمّیه، ینتقد الخمینی المقاربات الحوزویّه للأمور، ویعتبر أنّها لا توصل إلى حلٍّ، ویؤکِّد أنّ مراعاه الشرع مسألهٌ مهمّه وأساسیّه، لکنّ الأمر الذی لا ینبغی الغفله عنه هو أن لا تصل التجربه الإسلامیّه إلى یوم تُتَّهم فیه بعجزها عن إداره العالم والمجتمع. فالمهم لیس الأعلمیّه فی الفقه بالمعنى الکلاسیکی، بل مستوى الوعی بمصالح المجتمع وأفراده أیضاً(). ومن هنا یکرِّر السید الخمینی أنّ مصلحه الإسلام والمسلمین واحده، وأنّه لا تفکیک بینهما().
إنّ الخمینی هنا واضحٌ جدّاً فی اعتباره نجاح الشریعه فی تحقیق أهدافها فی الاجتماع السیاسی مسأله علیا لا ینبغی أن تقدّم علیها مسائل فرعیّه. والخصوصیه التی تعنینا هنا أنّه لا یمیّز بین مصالح الإسلام ومصالح المسلمین، فهو یعتبر أنّ مصالح الاثنین واحده، ومن ثمّ لا یمکن أن تکون هناک مصالح للإسلام لیست مصالح للمسلمین أو العکس. ومن الطبیعی أن ینظر الخمینی هنا إلى مفهوم الإسلام للمصلحه، وقیام التشریعات على المصالح الراجعه على العباد، فلا یمکنک رصد مصالح الإسلام فی تطبیق الشریعه دون أن تلاحظ أنّ هذه المصالح ترجع على المسلمین. وهذا دمجٌ فی غایه الأهمّیه، ویحتاج لوسیط یشکّل میزاناً للتقویم، وهو المفاهیم الکلّیه العامّه، من نوع العداله الاجتماعیّه ورفع الفقر وعزّه المسلمین وغیر ذلک…
وهذا الفهم الذی یقدِّمه الخمینی یبتعد کثیراً عن الفهم التعبُّدی فی التعامل مع الشریعه، والذی قد یطرحه بعضٌ هنا وهناک إلى الیوم، من أنّنا مکلّفون بالعمل بالشریعه، ولا نعرف هل ستکون لها نتائج إیجابیه دنیویّه علینا أو لا؟ فالسید الخمینی لا یفکِّر بهذه الطریقه إطلاقاً؛ لأنّه لا یفکِّر هنا بمنطق التنجیز والتعذیر فحَسْب، بل بمنطق النتائج والواقع، وهذا معنى دخول الواقع جزءاً مهمّاً من تفکیره الفقهی فی الإداره المجتمعیّه، وهو بهذا یضع الفقه فی موضع الاختبار. وهذه قضیّه لیست بسیطه أبداً.
وبهذا نکتشف أنّ کیفیّه تناول الرجلین للموضوع مختلفه:
ففیما استند الطوفی للمقاصد، وحدیث نفی الضرر، ومبدأ قیام التشریعات على المصالح والمفاسد.
اعتمد الخمینی على فهمٍ کلّی للشریعه بوصفها منظومه للإداره المجتمعیّه، وأنّ تفاصیل الأحکام لیست سوى حلقات فی سلسله یُراد لها تحقیق العداله الاجتماعیّه والصلاح الإنسانی العامّ، ومن ثمّ فکلّ ما یتصل بالإنسان الکبیر (المجتمع ـ النظام ـ الأمّه) یصبح هدفاً ومقصوداً، وما یتصل بالإنسان الصغیر (الفرد) یصبح وسیله ومحکوماً. فلم یعتمد السید الخمینی على حدیث لا ضرر، بل اعتمد على فهمٍ مجموعیّ لترکیبه التشریعات من جههٍ، وعلى دلیل ولایه الفقیه ثانیهً، وعلى مرجعیّه الحکم الثانوی من جههٍ ثالثه.
وبهذا وُلدت عنده نظریّه الولایه المطلقه بهذا الجانب للإطلاق، وهو إطلاقٌ یؤکِّد بعض الباحثین أنّه لم یسبقه إلیه أحدٌ().
هذا التصوّر الذی خرج به الخمینی رُبَما لا یمکن فصله عن رؤیته لدَوْر الزمان والمکان فی الاجتهاد؛ لأنّه بفکرته هذه یرید تکریس فکرته الأولى، وهی أنّ الأحکام التی صدرت فی عصرٍ معیّن من الممکن أن یکون موضوعها قد تغیّر ونحن لا نشعر بذلک، متوهِّمین أنّ الموضوع هو عینه. وسببُ هذا الشعور هو رؤیتُنا للمتغیّرات الاجتماعیه والاقتصادیه والسیاسیه فی العالم بمنظارٍ سطحی، وغیبوبتنا عن الواقع. وبتغیّر الموضوعات ینبغی تغیُّر الأحکام وفقاً للقاعده، وهذا یعنی أنّ الأحکام التی تتغیَّر أو تتخصّص إنّما تولد غیر مطلقه، بل بفعل وعی الواقع نکتشف أنّ خلفها رؤیه هی المنظوره. وهذا ما یفهم بوضوح من کلمات السید الخمینی فی رسالته إلى الشیخ القدیری، والتی دوَّنها عام ۱۹۸۸م().
إنّ فکره الزمان والمکان تقرِّبنا من فکره التخصیص لظاهر الحکم بملاکه ومقصده وروحه، والتمییز بین الشکل الظاهری للحکم والمقصد الحقیقی المکتشف عبر تجرید الأحکام من فضاءاتها الزمکانیّه. وبهذا یمکننا تصنیف الخمینی بأنّه بات یتّجه أواخر عمره نحو التفکیر بطریقهٍ واقعیّه مقاصدیّه نوعاً ما؛ فحاجات ومتطلّبات النظام السیاسی هی المقصود الذی تنصهر فیه الأحکام الفرعیّه، والفقیه یجب أن یلاحظ هذه العلاقه بین کلّ حکم فرعی وبین حاجات النظام، لیطلب أو یجمّد الأحکام الفرعیّه، تبعاً لتحقیقها لحاجات النظام العامّه.
من هنا، یعتبر العلاّمه السید محمد حسین فضل الله أنّ الذهنیه الثوریّه للسید الخمینی هی التی حرَّکت إعاده فهمه للنصوص؛ لجعلها ضمن سیاقات کلّیه من نوع التحریر والمساواه والعداله ورفع الظلم، دون أن یخرج عن قواعد الاجتهاد الرسمیّه()، ملاحظاً عنصر النتائج على أرض الواقع، ولیس فقط عنصر العلاقه بیننا وبین النصّ؛ لأنّ الغایات تُختبر فی النتائج.
وبهذا نکتشف اختلاف زاویه الرؤیه بین الرجلین، لکنّ السؤال الأبرز هو: إنّ الطوفی واضحٌ فی حدیثه عن تخصیص النصّ بالمصلحه، بینما لا نجد تعبیر التخصیص أو التقیید هنا فی أدبیّات الخمینی، فهل عملیه تجمید الأحکام الفرعیّه العبادیّه وغیرها هی ـ من وجهه نظر الخمینی ـ نوعٌ من التخصیص أو لا؟ وعلى الافتراض الثانی فما هی نوعیّه هذه العملیه التی یقوم بها ولیّ الأمر؟
من الممکن أن یقال بأنّ هناک فرقاً بینهما، هو السبب فی عدم توظیف الخمینی لمفرداتٍ من نوع التخصیص والتقیید. ویتعزّز هذا الاعتقاد بهذا الفرق بأنّ السید الخمینی لم یستخدم هذه الآلیّه فی التفکیر فی بحثه الفقهی، ولا فی فتاواه، وإنّما نلاحظ أنّه یستخدمها فی سیاسه ولیّ الأمر، ما یثیر فی ذهننا احتمالیّه أنّ عملیّه التجمید هذه لیست عملیّهً اجتهادیّه للتوصّل إلى حکم الله فی الواقعه من خلال مقاربه النصوص نفسها، وتجدید عملیّات فهمها، بل هی عملیّه ولائیّه، أی هی نوع من تفویض السلطه الشرعیّه صلاحیه التجمید بعنوانٍ ثانوی أو بعنوان جعل الحاکمیّه نفسه، دون أن یکون ناتج هذه العملیّه فتوائیّاً ولا اجتهادیّاً فی النصوص.
وهذا هو الفارق بین الرجلین بشکلٍ جوهری، وهو ما یجعل الطوفی أکثر عمقاً من الخمینی هنا من ناحیه أنّه ذهب بنظریّه المصلحه نحو بِنْیه الاجتهاد وفهم الدین نفسه، لا نحو السلطه وتنظیم عملیّه إداره تطبیق الشریعه نفسها على أرض الواقع بما یحقِّق مصالحها العلیا الکامنه فی ضرورات النظام.
هذا الکلام معقولٌ جدّاً. لکنّ الذی یبدو لی أنّه بالتحلیل لیس سوى ـ أو لا یعقل إلاّ أن یقوم على ـ عملیّه تخصیص للإطلاقات. فکأنّ السید الخمینی قیّد إطلاقات الأدلّه الأوّلیه بتدخُّل الحاکم، تماماً کما نقول: یجب على الولد الوفاء بالنذر، لکنْ بإمکان الأب إبطال هذا النذر بالنهی عنه. فکأنّ کلّ الأحکام الشرعیّه الفرعیّه مقیّده بمقیّد من هذا النوع (إلاّ على تقدیر إصدار الحاکم لحکمٍ مخالف)، وفی الوقت عینه یکون هناک تکلیفٌ للحاکم الشرعی نفسه فی أنّه لا یجوز له ذلک إلاّ إذا رأى صلاحاً یتّصل بقضایا الأمّه والنظام، بلا حاجه إلى أن یوازن بین نوعیّه صلاح النظام ونوعیّه المصلحه فی الأحکام الأوّلیه، وإلاّ عُدْنا إلى قاعده التزاحم والعناوین الثانویّه، والمفروض أنّ الخمینی لا یرید ذلک… فدلیل وجوب الحجّ مقیّد من الأوّل بدلیل جعل الحاکمیّه، بمعنى أنّه یقول: الحجّ واجبٌ على المستطیع إذا لم ینْهَ عنه الحاکم الشرعی، وفی المقابل ثمّه خطابٌ شرعی موجّه للحاکم بالنهی عن صدّ الناس عن الحجّ والعمل على ذهابهم له، شرط أن یکون ذلک ـ وفقاً لتشخیص الحاکم ـ غیر مناقضٍ لمصالح النظام العلیا، وهذا هو معنى تقدّم مصالح النظام على جمیع الأحکام الأوّلیه.
فنحن مع السیّد الخمینی بتنا مجبورین على افتراض وجود تقییدٍ ما فی أدلّه الأحکام الفرعیّه، حتى نصحّح تقدّم حکم الحاکم وفقاً للمصلحه النظامیّه على کلّ الأحکام الأوّلیه، دون حاجه إلى قاعده التزاحم ولا العناوین الثانویّه. ومن ثمّ لا فرق من الناحیه العمیقه بین الطوفی والخمینی فی هذه النقطه، حتّى لو سمّینا الحکم الذی یصدره الحاکم حکماً ولائیّاً؛ لأنّ نفس قدرته على تجمید الحکم الأوّلی معناه أنّ الحکم الأوّل مقیّد بعدم إعمال الحاکم لولایته، وإلاّ کان حکمُ الحاکم مخالفاً للشرع!
نعم، الفرق الدقیق بینهما أنّ السید الخمینی لا یقول بأنّ تجمید الحجّ فی هذه اللحظه هو حکمٌ مستنبط من النصوص، بل هو تشخیصٌ بشری، إذ لو کان حکماً مستنبطاً من النصوص عبر عملیّات المقاربه والمقارنه بینها للزم تحریم الحجّ فتوائیّاً، ولو من دون إصدار الحاکم حکمه الولائی. وهذا ما لا أعتقد بأنّ السید الخمینی یقول به. بل هو یرى أنّ تجمید إطلاق دلیل وجوب الحجّ متفرِّع على تحقُّق صغرى الحکم الولائی، ولهذا یربط کلّ هذه العملیّه بمفهوم الحاکمیّه. بینما یفهم من الطوفی أنّ الأمر یقع داخل النصوص نفسها، والعقل الإنسانی لیس سوى کاشف عن تقیّد النصّ بهذه المصلحه. بینما الخمینی لا یرى ذلک، بل یرى أنّ التقیید کأنّه لیس إلاّ تقییداً واحداً، وهو تقیید جمیع الأدلّه الأوّلیه بعدم إعمال الحاکم ولایته على عکسها. فکلاهما مرجع تقییده إلى عملیّه داخلیّه بین النصوص، لکنّ تطبیق التقیید (لا التقیید نفسه) عند السید الخمینی لیس مأخوذاً من النصوص، بل هو عملیّه بشریه خالصه؛ لأنّ إصدار الحکم الولائیّ هو عملیّه بشریّه خالصه؛ إذ الحکم الولائی هو جهدٌ بشری إنشائی، ولیس اکتشافیّاً فحَسْب، کما حقَّقناه فی محلّه().
وبهذا نعرف أنّ النتیجه عند الطوفی ستکون حکماً شرعیّاً أوّلیاً، بینما النتیجه عند الخمینی ستکون حکماً شرعیّاً ثانویّاً، أی إنّ الحکم الأوّلی وهو وجوب الحجّ توقَّف الآن، وحلّ مکانه بالنسبه للمکلّفین حکمٌ ثانویّ، وهو حرمه الحجّ بعد تعنونه بعنوان أنّه صار منهیّاً عنه من قِبَل الحاکم؛ لأنّ إصدار الحاکم لحکمٍ مخالف یوجب تجمُّد إطلاق الحکم الأوّلی، دون أن یکون مفاد حکم الحاکم حکماً أوّلیاً أو ثانویّاً بنفسه بالضروره؛ لأنّه حکمٌ بشریّ، ولا حکم شرعیّاً فیه سوى وجوب طاعته.
وقفهٌ تقویمیّه لنظریّه الإمام الخمینی
بعد أن فهمنا نظریه الرجلین، وعرفنا عناصر الالتقاء والاختلاف بینهما، یمکننا أن نعود لنظریّه السید الخمینی من زاویه تقویمها؟ فهل ثمّه ما یبرّر هذه العملیّه فی الشرع أو لا؟
الذی یبدو لنا أنّ أدلّه جعل الولایه للحاکم لا تفید، لا بالدلاله المباشره ولا بالإطلاق ولا بدلاله الاقتضاء ولا بغیر ذلک، ضرورهَ أن یُمنح صلاحیه ولایه مطلقه من هذا النوع من الإطلاق. وما قاله السید الخمینی من أنّ حصر عمل الحاکم بالعناوین الثانویّه یوجب تفریغ حکومته من مضمونها غیرُ صحیح، وکأنّه یرید بذلک جعل خصوصیّه الإطلاق مفاده بدلاله الاقتضاء فی النصوص، حَسْب اصطلاح علماء أصول الفقه الإسلامیّ، والتی تجعل الولایه لولیّ الأمر.
وأعتقد بأنّ السید الخمینی کان بإمکانه تعدیل نظریّته عبر إجراء تعدیلات فی فکره العناوین الثانویّه نفسها، بإجرائها على المجتمع والإنسان الکبیر. فالضرر والضروره والحَرَج والعسر لم تَعُدْ شأناً فردیّاً، بل حیث إنّنا نفهم أنّ التشریعات الفردیّه تقع فی سیاق تشریعات المجتمع فهذا یعنی أنّ العناوین الثانویّه وقواعد التزاحم تجری فی العلاقه بین الأحکام الفردیّه والمصالح النوعیّه المجتمعیّه النظامیّه، والمقدّم هو مصالح النظام مثلاً. وعلیه فلا حاجه لفرض إطلاقٍ فی دلیل الولایه ـ وهو غیرُ واضح دلالیّاً ـ، بل یمکن الوصول إلى نتائج مقاربه عبر إعاده إنتاج مفهوم التزاحم والعناوین الثانویه من سیاقها الفردی إلى سیاقها المجتمعی والنظامی، بعد إثبات أنّ کلّ ما یکون فی مصلحه النظام ویقع مزاحماً أو منافساً لمصالح الأحکام الأوّلیه الفردیّه والاجتماعیّه فإنّ ما فیه مصلحه النظام هو الأقوى ملاکاً والأهمّ. وهذه العملیّه بنفسها بحاجهٍ إلى إثباتٍ اجتهادیّ أیضاً، ولیست مسلّمهً أو بدیهیّه، وإلاّ حدّدنا التقدیم بحالات إحراز الأهمّ، وقد یکون مصالح النظام تارهً وقد یکون العکس أخرى.
وعلیه، نحن قد نوافق على نظریّه السید الخمینی فی تقدیم المصلحه العامّه على المصلحه الخاصّه من حیث المبدأ، بلا حاجه لفرض إطلاقٍ فی ولایه ولیّ الأمر، ویکون مبرّر هذا التقدیم هو أهمّیه المصالح النوعیّه على المصالح غیر النوعیّه، على فرض إثبات کلّیه هذه المقوله، ویکون دلیل الولایه مفوّضاً الحاکم تشخیص هذه الأهمّیه، ولولا هذا التفویض ستکون حکومته مفرَّغه من مضمونها.
نتیجه البحث فی علاقه النصّ بالمصلحه
وعلیه، مقولتا الطوفی والخمینی صحیحتان فی تقدیم المصلحه على النصّ، لکنْ عبر عملیّه إعاده التفسیر أو الإنتاج التی قدَّمناها لهما، وهی تقع فی سیاق قواعد الحاکمیّه والأهمّیه وفقه الأولویّات من جههٍ، وفی إطار نظریّه المقاصد الشرعیّه من جههٍ ثانیه.
وخلاصه فکرتنا أنّ تعدیل المصلحه من مفهومها المخارِج للنصّ إلى مفهومها المقاصدی المداخِل للنصّ یوجب رفع الإشکالیّات عن نظریّه الإمام الطوفی، عدا إشکالیّه التمییز بین العبادات والمعاملات، بعد التسلیم بکلّیه النظریّه المقاصدیّه بوصفها أصلاً موضوعاً.
کما أنّ تعدیل فکره إطلاق ولایه ولیّ الأمر نحو فکره إعاده إنتاج مفهوم العناوین الثانویّه وقواعد الأولویّات فی السیاق النظامیّ والسیاسیّ یوجب أیضاً رفع الإشکالیّات عن نظریّه الإمام الخمینی، بعد التسلیم بکلّیه تقدّم السیاسیّ على غیره فی التشریعات بوصفها أصلاً موضوعاً.
ولا أرید أن أُبدی هنا موافقهً أو مخالفه لهذین الأصلین الموضوعَین اللذین تقوم علیهما نظریّه الطوفی والخمینی، بل بحثُهما موکولٌ إلى محلّه.
وبهذا نخرج بنتیجه أنّ تقدیم المصلحه على النصّ بالمعنى الذی قلناه لیس فیه بأسٌ، وإنْ کنتُ أقترح هنا تغییر هذا العنوان؛ لأنّ کلمه (تقدیم المصلحه على النصّ) هی بنفسها موجبهٌ لتکوین انطباع سلبیّ. ولنذهب نحو اختیار عنوانٍ آخر من نوع: تقدیم الأحکام النظامیّه ومصالحها على الأحکام الفردیّه ومصالحها، أو تقدیم المصالح المقاصدیّه على المصالح الوسائلیّه.
الهوامش
([۱]) قال فیه: (وکان مع ذلک کلّه شیعیّاً منحرفاً فی الاعتقاد عن السنّه، حتى أنّه قال فی نفسه:
حنبلیٌّ رافضی أشعری *** هذه أحد العبر…
ووجد له فی الرفض قصائد، وهو یلوح فی کثیر من تصانیفه، حتى أنّه صنف کتاباً سمّاه: العذاب الواصب على أرواح النواصب. ومن دسائسه الخبیثه أنّه قال فی شرح الأربعین، للنووی: اعلم أنّ من أسباب الخلاف الواقع بین العلماء تعارض الروایات والنصوص، وبعض الناس یزعم أنّ السبب فی ذلک عمر بن الخطاب، وذلک أنّ الصحابه استأذنوه فی تدوین السنّه من ذلک الزمان فمنعهم من ذلک، وقال: لا أکتب مع القرآن غیره، مع علمه أنّ النبیّﷺ قال: اکتبوا لأبی شاه خطبه الوداع، وقال: قیِّدوا العلم بالکتابه، قالوا: فلو ترک الصحابه یدوّن کلّ واحد منهم ما روى عن النبیّﷺ لانضبطت السنّه، ولم یبْقَ بین آخر الأمّه وبین النبیّﷺ فی کلّ حدیثٍ إلاّ الصحابیّ الذی دوَّن روایته؛ لأنّ تلک الدواوین کانت تتواتر عنهم إلینا، کما تواتر البخاری ومسلم ونحوهما. فانظر إلى هذا الکلام الخبیث المتضمِّن أنّ أمیر المؤمنین عمر رضی الله عنه هو الذی أضلّ الأمّه، قصداً منه وتعمّداً. ولقد کذب فی ذلک وفجر… وقد کان الطوفی أقام بالمدینه النبویّه مدّهً یصحب الرافضه: السکاکینی المعتزلی، ویجتمعان على ضلالتهما، وقد هتکه الله، وعجل الانتقام منه بالدیار المصریّه. قال تاج الدین أحمد بن مکتوم القیسی فی حق الطوفی: …کان قلیل النقل والحفظ، وخصوصاً للنحو على مشارکه فیه. واشتهر عنه الرفض، والوقوع فی أبی بکر وابنته عائشه رضی الله عنهما، وفی غیرهما من جمله الصحابه رضی الله عنهم، وظهر له فی هذا المعنى أشعارٌ بخطّه، نقلها عنه بعض مَنْ کان یصحبه ویظهر موافقهً له، منها قوله فی قصیده:
کم بین مَنْ شکّ فی خلافته *** وبین مَنْ قیل: إنه الله…
فرفع أمر ذلک إلى قاضی قضاه الحنابله سعد الدین الحارثی، وقامت علیه بذلک البیّنه، فتقدّم إلى بعض نوّابه بضربه وتعزیزه وإشهاره، وطیف به، ونودی علیه بذلک، وصرف عن جمیع ما کان بیده من المدارس، وحبس أیاماً، ثم أطلق… قلت: وقد ذکره بعض شیوخنا عمَّنْ حدَّثه عن آخر: أنه أظهر له التوبه، وهو محبوسٌ. وهذا من تقیّته ونفاقه…). (الذیل على طبقات الحنابله ۴: ۳۶۸ ـ ۳۷۰؛ وراجِعْ: الصفدی، الوافی بالوفیات ۱۹: ۴۳؛ وابن العماد، شذرات الذهب فی أخبار مَنْ ذهب ۶: ۳۹ ـ ۴۰).
([۲]) انظر: أعیان الشیعه ۷: ۳۰۱ ـ ۳۰۲٫
([۳]) انظر: أبو زهره، ابن حنبل: ۳۶۱ ـ ۳۶۳٫
([۴]) یقول السید عبد الحسین شرف الدین فی کتابه (النصّ والاجتهاد: ۴۹ ـ ۵۰): «وقبل أن نختم هذا البحث نرى لزاماً علینا أن ننبِّه الأستاذ الدوالیبی إلى تدارک ما نقله عن الإمامیّه من الأخذ بالمصالح المرسله، وتقدیمهم إیّاه على النصوص القطعیّه؛ فإنّ هذا ممّا لا صحّه له، ولم یقل به منهم أحد. وسلیمان الطوفی من الغلاه الذین ما زالت خصومنا تحمّلنا أوزارهم. ورأی الإمامیّه فی هذه المسأله ما قد ذکرناه آنفاً، وعلیه إجماعهم، وتلک کتبهم فی أصول الفقه منتشره، فلیراجعها الأستاذ، ولیعتمد علیها فی ما ینقله عن الإمامیّه، بَدَلاً من اعتماده فی ذلک على کتاب ابن حنبل سامحه الله تعالى». وقد تصوّر بعضٌ (انظر: یحیى محمد، فهم الدین والواقع: ۹۹، الهامش رقم ۱) أنّ السید شرف الدین یُثبت تشیُّع الطوفی، غایه الأمر یضعه فی غلاه الشیعه. وهذا أمرٌ وإنْ کنتُ أجده محتملاً، لکنّه بعیدٌ؛ إذ لعلّ شرف الدین قصد من الغلوّ هنا التطرُّف والمبالغه فی الأمور، لا الانتماء لمذهب الغلاه من الشیعه، فهذا أمرٌ لا یعقل أن یکون قد قال به أحدٌ أصلاً، وخاصّه بمفهوم الغلوّ فی الفقه الإمامیّ، والله العالم.
([۵]) انظر: البوطی، ضوابط المصلحه: ۲۰۲ ـ ۲۰۶٫
([۶]) لمزید اطّلاع حول شخصیّه الطوفی وتاریخه ومذهبه، انظر: مصطفى زید، المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۴۵ ـ ۷۰٫
([۷]) الطوفی، رساله فی رعایه المصلحه (مطبوعه مستقلاًّ): ۴۵ ـ ۴۷؛ وانظرها فی کتاب عبد الوهّاب خلاف، مصادر التشریع فی ما لا نصّ فیه: ۱۰۵ ـ ۱۴۴٫
([۸]) راجع ـ لمزید اطّلاع ـ: محمد سلام مدکور، المدخل للفقه الإسلامی: ۲۶۴ ـ ۲۷۳٫
([۹]) الغزالی، المستصفى: ۱۷۶؛ وانظر حول نظریّه المصلحه قبل الطوفی ما کتبه: مصطفى زید، المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۱۷ ـ ۴۳٫
([۱۰]) انظر: علی حبّ الله، دراسات فی فلسفه أصول الفقه والشریعه: ۲۰۷ ـ ۲۰۸٫
([۱۱]) انظر: یحیى محمد، فهم الدین والواقع: ۹۹ ـ ۱۰۲٫
([۱۲]) انظر: مصطفى زید، المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۹۹ ـ ۱۰۲٫
([۱۳]) انظر: محمد تقی الحکیم، الأصول العامّه للفقه المقارن: ۳۹۲، ۴۰۰؛ ومحمد أبو زهره، ابن حنبل: ۳۵۲، ۳۵۳، ۳۶؛ والإمام مالک: ۳۹۳، ۴۱۷، ۴۲۴، ۴۳۱٫
([۱۴]) انظر: محمد سلام مدکور، المدخل للفقه الإسلامی: ۲۶۰؛ ومصطفى زید، المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۸۵٫
([۱۵]) انظر: محمد أبو زهره، ابن حنبل: ۳۵۷ ـ ۳۵۸؛ والإمام مالک: ۴۲۱ ـ ۴۲۲؛ ومحمد سلام مدکور، المدخل للفقه الإسلامی: ۲۶۰؛ والبوطی، ضوابط المصلحه: ۲۰۹ ـ ۲۱۰؛ ومصطفى زید، المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۸۵، ۸۹ ـ ۹۰، ۹۶، ۱۱۷٫
([۱۶]) انظر: محمد سلام مدکور، المدخل للفقه الإسلامی: ۲۶۰٫
([۱۷]) انظر: المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۹۰ ـ ۹۱، ۹۳٫
([۱۸]) انظر: مصطفى زید، المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۸۵، ۹۰٫
([۱۹]) انظر: الخوئی، دراسات فی علم الأصول ۳: ۵۱۲ ـ ۵۱۳٫
([۲۰]) انظر: الإیروانی، دروس تمهیدیّه فی القواعد الفقهیّه ۱: ۱۵۰٫
([۲۱]) انظر: الصدر، بحوث فی علم الأصول ۵: ۵۰۶؛ ومباحث الأصول ۴: ۶۱۷، القسم ۲٫
([۲۲]) انظر: الحائری، مباحث الأصول ۴: ۶۱۷، القسم ۲، الهامش رقم ۱٫
([۲۳]) انظر: البوطی، ضوابط المصلحه: ۲۱۲٫
([۲۴]) انظر: البوطی، ضوابط المصلحه: ۲۱۰٫
([۲۵]) انظر: محمد أبو زهره، ابن حنبل: ۳۵۶ ـ ۳۵۷؛ والإمام مالک: ۴۲۰ ـ ۴۲۱؛ وعلی حسب الله، أصول التشریع الإسلامی: ۸۶، ۸۸٫
([۲۶]) انظر: رساله فی رعایه المصلحه (ضمن کتاب مصادر التشریع فی ما لا نصّ فیه): ۱۲۳٫
([۲۷]) انظر: أبو زهره، ابن حنبل: ۳۶۱٫
([۲۸]) انظر: الأموال ونظریّه العقد فی الفقه الإسلامی: ۱۳۲ ـ ۱۳۵؛ والبیوع منهج وتطبیقه: ۱۸ ـ ۲۰؛ وراجع: البوطی، ضوابط المصلحه: ۲۱۰٫
([۲۹]) راجع: حیدر حبّ الله، حجیّه السنّه فی الفکر الإسلامی: ۵۱۷ ـ ۵۶۹٫
([۳۰]) البوطی، ضوابط المصلحه: ۲۰۷ ـ ۲۰۹٫
([۳۱]) انظر: مصطفى زید، المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۱۱۶٫
([۳۲]) انظر: البوطی، ضوابط المصلحه: ۲۱۰ ـ ۲۱۱٫
([۳۳]) انظر: مصطفى زید، المصلحه فی التشریع الإسلامی: ۱۱۶٫
([۳۴]) انظر: أبو زهره، ابن حنبل: ۳۵۸ ـ ۳۵۹؛ والإمام مالک: ۴۲۲ ـ ۴۲۴٫
([۳۵]) انظر: ضوابط المصلحه: ۲۱۵٫
([۳۶]) شرف الدین، النصّ والاجتهاد: ۴۷٫
([۳۷]) انظر: یحیى محمد، فهم الدین والواقع: ۱۰۹ ـ ۱۱۳٫
([۳۸]) انظر: یحیى محمد، فهم الدین والواقع: ۱۱۳ ـ ۱۱۶٫
([۳۹]) انظر: یحیى محمد، فهم الدین والواقع: ۶۸ ـ ۷۴ (الطبعه الثانیه).
([۴۰]) انظر: حبّ الله، إضاءات فی الفکر والدین والاجتماع ۴: ۳۸۴ ـ ۳۸۸٫
([۴۱]) انظر: صحیفه إمام ۲۰: ۴۵۱ ـ ۴۵۲٫
([۴۲]) انظر: صحیفه إمام ۲۱: ۴۲۲٫
([۴۳]) انظر: صحیفه إمام ۲۰: ۴۶۳ ـ ۴۶۵٫
([۴۴]) انظر: صحیفه إمام ۲۱: ۳۳۵٫
([۴۵]) انظر: صحیفه إمام ۲۱: ۱۷۷ ـ ۱۷۸، ۲۱۷ ـ ۲۱۸٫
([۴۶]) انظر: صحیفه إمام ۱۹: ۴۰۷، و۱۵: ۱۱۵ ـ ۱۱۶٫
([۴۷]) انظر: سعید ضیائی فر، الإمام الخمینی منهجه فی الاجتهاد ومدرسته الفقهیّه: ۲۲۶، ۲۴۳٫
([۴۸]) انظر: صحیفه إمام ۲۱: ۱۴۹ ـ ۱۵۲٫