الإسلام دین التواصل

إن الإسلام لم یأتِ لهدمِ الإنسانیه، إنما جاء بهدف هدم الحواجز التی یمکن أن تفصل الإنسان عن أخیه فی الإنسانیه، أو أخیه فی الإیمان، مثل العصبیات بسائر أقسامها وأسمائها، والکبر والغرور والحقد والحسد وسوء الظن… هذه القائمه الطویله السوداء من الصفات السیئه التی جاء الإسلام للقضاء علیها واجتثاثها من جذورها.
وقد تتعجب من قول الرسول صلى الله علیه وآله: (إنما بعثت لأتمم مکارم الأخلاق)(۱).
ولکن المجتمع الذی لا أخلاق له، والذی یفصل بین أبنائه الحسد والبغضاء والکبر، ولا یثق المرء بأخیه، والذی لا یقوم على قاعده الحب والإخلاص والصفاء، هذا المجتمع لا یمکن أن یرتقی أو یبنی حضاره، إن مجتمع التقاطع والحقد والحسد والبغضاء لیس مجتمعاً إسلامیاً وإن سُمّی کذلک.
إذن فالإسلام یدعو إلى مجتمع المحبه والتواصل والتعاون والإخاء والتکافل مجتمع لیس فیه الحواجز النفسیه والاجتماعیه بین أبنائه، متشابک داخلیاً، وآنئذ یستطیع هذا المجتمع أن یکون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعًا﴾(۲).
وأن یکون: ﴿وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ﴾(۳).
وأن یکون: (مثل المؤمنین فی توادّهم وتراحمهم کمثل الجسد الواحد إن اشتکى منه عضو تداعت سائر الأعضاء بالسهر والحمى)(۴)
فإذا ما تکاتف المجتمع داخلیاً، وأمِن من داخله، فحینئذ من السهوله أن ینتصر على أعدائه، أما إذا کان المجتمع مقاطعاً بعضه بعضاً، فحینئذ على هذا المجتمع السلام، ولن یستطیع أن ینتصر على أعدائه.
والتاریخ، والإسلامی منه بالخصوص، یؤکِّد لنا هذه الحقیقه، أن المسلمین تراجعوا حینما تقاطعوا، وإذا أرادوا الرجوع إلى میدان قیاده الأمم فما علیهم إلا أن یتواصلوا ویتکاتفوا.
وهذا التواصل ینبغی أن یبدأ فی الأسره والعائله، أی بین الأرحام، لیکون البیت الداخلی آمناً، ومن ثمّ‏َ ینجرّالکلام إلى الوحده والتواصل الاجتماعی الإسلامی بشکل عام والإنسانی بشکل أعم.

عبادات تواصلیه
حتى العبادات الإسلامیه التی ظاهرها الفردیه، فإنّها تضمنت معان اجتماعیه، خذ مثالاً الصلاه: فعندما یصلی الإنسان المسلم بمفرده، هل یعنی ذلک أن هذه الصلاه هی صلاه فردیه؟ لا، لأن الصلاه وإن کانت إقامتها بصوره فردیه أحیاناً، إلا أن مضمونها اجتماعی.
خذ مثلاً: عندما یقرأ المصلی سوره الفاتحه، فإنه یصل إلى آیات: ﴿مَلِکِ یَوْمِ الدِّینِ * إِیَّاکَ نَعْبُدُ وإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ﴾.
فهنا نجد أن الصیغه صیغه الجماعه، نعبد نستعین إهدنا، ولیست هی صیغه المفرد، أعبد أستعین إهدنی.
فضلاً عن أن الإسلام حثّ على إقامه الصلاه جماعه وفی المسجد، وهذا یشیر إلى أهمیّه التحرک والنشاط الاجتماعی التواصلی فی الإسلام الحکیم.
وهکذا عباده الحج، فإن الحج صورته صوره جماعیه، فمنذ انطلاق الإنسان من بلده إلى عودته من الحج ترافقه المعانی الاجتماعیه، والإشارات التواصلیه.
وهکذا الصوم والزکاه، ترى فیهما المعانی الاجتماعیه التواصلیه فإذن الإسلام اجتماعی تواصلی، یدعو إلى المحبّه والتکاتف والتعاون.
ومن الأمور التی أکّد علیها هذا الدین العظیم صله الرحم، وهذا ما سنتحدث عنه فی العناوین اللاحقه.

الغرب المتقاطع‏
إذا عرفت منهجیه الإسلام فی العلاقه مع الآخر، وکونه اجتماعیاً، فعرِّج بنظرک صوب الغرب لترى کیف یعیش الغرب من هذه الناحیه.
إن مراجعه دقیقه للمجتمع الغربی یؤکِّد لک، بما لیس فیه شک، إلى أنه مجتمع فردانی وأنانی الإتجاه، فإنه لا یفهم إلا من خلال مصالحه الضیقه، والفرد فیه مکلّف بتحسین حاله بمفرده، ولیس مسؤولاً عن الآخرین، وبالنتیجه فإن قیمه ومصالحه متعلقه به، ولا یخدم بها بنی الإنسان، مهما بعد منه أو قرب، حتى ولو کان ابنه من صلبه أحیاناً، ولا تعدو أن تکون القیم والمصالح آله اقتصادیه مثلها مثل بقیه الآلات، لا دخل لمعنى الإنسان أو الإنسانیه ومصیره فیها بشی‏ء.
والمؤسف المبکی أن روحیّه الغربیین قد غزتنا، وأصبحت هویّه المسلمین وأصالتهم وروحیتهم الاجتماعیه والتواصلیه فی مهب الریاح الغربیه الفاسده، فالهجوم الثقافی شرس واسع النطاق.
فینبغی على المسلم فی هذا الصراع إثبات الذات وصون الهویه الثقافیه والتمسک بمبادئ الإسلام الأصیله.
وإذا أردت معرفه حقیقه المجتمع الغربی فما علیک إلا أن ترجع إلى الصحف والمجلات التی تتحدَّث عن تفکک هذا المجتمع، وبالخصوص تفکک عوائله وأسره.
أجریت دراسه على ۷۵۹۸ جانحاً فی الولایات المتحده الأمیرکیه من نزلاء المؤسسات الإصلاحیه سنه ۱۹۱۰، أظهرت أن ۵۰٫۷% أتوا من أُسر متصدِّعه.
وأن ۵۰٫۵ من نزلاء المدارس الإصلاحیه فی إنکلترا، واسکتلندا أتوا من بیوت متصدعه، وأجرى باحث فرنسی عام ۱۹۴۲ فی مدینه باریس دراسه على الأحداث الشباب المراهقین المنحرفین، فتبین أن ۸۸% منهم کانت أسرهم متفککه(۵).
إن المجتمع الغربی مهدّد بالسقوط جرّاء تفشی وتجذّر ظاهره الفردیه الأنانیه بین کل فئاته.
وفی رأی بعض الباحثین الاجتماعیین، أن المجتمع الأمریکی بالذات، نسی مفتّت ومن ثم فلیس له أمل یُرجى لمستقبل هذا المجتمع إذا هو لم یتدارک الأمر قبل فوات الأوان، وذلک بتصحیح وترمیم النسیج الاجتماعی ویعترف هؤلاء الباحثون: أن الوضع یحتاج إلى تغییر جذری لقیم الشعب الأمیرکی(۶).

العلاقات الاجتماعیه فی المجتمع الإسلامی‏
إن المجتمعات الإسلامیه رغم عدم التزامها بالإسلام التزاماً تاماً، إلا أنه لا تزال الروح الاجتماعیه موجوده فیها.
فحسب دراسات أجریت على المجتمعات العربیه وهی جزء من الأمه الإسلامیه أنه لا تزال فی المجتمعات العربیه روح العاطفیه والترابط، وحب المعاشره، وهی قیم تعکس أهمیّه الجماعه لدى الفرد… ولیس الامتثال لرغبات الأسره والخوف من کلام الناس، والاهتمام بالمحافظه على السمعه، والمکانه العالیه التی تحتلها المجاملات الاجتماعیه العربیه إلا تأکیداً، لأهمیه الجماعه لدى الفرد.
وقد لاحظ أحد الباحثین أن العرب على خلاف الأوروبیین والأمیرکیین، عاده ما یفضلون الوقوف والجلوس على مقربه شدیده من بعضهم البعض فی الأماکن العامه(۷).

أسباب القطیعه
بعد أن قارنّا بین المجتمع الإسلامی وقیمه من حیث الاتجاه الجماعی، وبین المجتمع الغربی من حیث أنانیته، یحسن بنا أن نعرف الأسباب التی تدعو إلى تقاطع الناس وتنافرهم،
وهذه الأسباب تجری على قطع الرحم أیضاً.
۱- سیطره روح المادّیه على المجتمع والأفراد، مما یسبِّب تمحور کل إنسان حول ذاته، بالشکل الذی یؤدی إلى عدم الاهتمام بالآخرین. وهذا ما نراه فی المجتمعات الغربیه التی لا تقیس علاقاتها مع الآخرین إلا بالقیاس المادّی، ویختصرون علاقاتهم بقیاس الجیب وما یحویه من المال.
وهذه الروح المادّیه رفضها الإسلام العزیز، داعیاً إلى عدم الاستغراق فی حبّ‏ِ الدنیا، وحبّ‏ِ المال، المؤدِّیان إلى کثیر من المساوئ، ومنها قطع الرحم.
إننا نرى کثیراً من الأغنیاء المنکبین على جمع المال، لا یتواصلون مع أقاربهم، وما ذلک إلا لأنّهم فقراء، لا یستفیدون منهم شیئاً، بمقیاس الجیب والمصالح المادّیه.
۲- التکبُّر: وسیطره الروح المادّیه، تؤدی بالإنسان الذی تغلبت علیه هذه الروح، إلى التکبُّر على الآخرین واحتقارهم وقد قال رسول اللَّه صلى الله علیه وآله:
(لا یدخل الجنه من کان فی قلبه مثقال حبه من کبر)(۸)
وإذا کان التکبُّر مذموماً فی الإسلام، فإن التکبُّر على ذی الرحم أشدُّ قبحاً، فکم نرى غنیاً، أو ذا جاه، لا یصل رحمه الفقیر أو الذی لا جاه له، ولا یعرف له قرابته ویتکبَّر علیه، أما إذا رأى رحمه الغنی الوجیه احترمه،
وهذا فی الحقیقه لیس صله للرحم، بل اعتناء بالمال والمصالح الضیقه، لا بشخص الرحم، فهذا احترم المال ولم یحترم قریبه، ألا یعلم هذا المتکبِّر أن اللَّه. ﴿لَا یُحِبُّ کُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(۹)
۳- سوء الظن: وهو مسبِّب للکثیر من العداوات والأحقاد، وکم من أخوین تقاطعا لأنهما أساءا الظن، وکم من عائلات وأسر تفککت بسبب هذه الخصله المدمِّره.ولذلک حذّرنا اللَّه من هذه الرذیله. ﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا کَثِیرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾(۱۰).
وکثیر من الأحادیث ذکرت حول هذا الموضوع، یقول أبو عبد اللَّه علیه السلام، قال: أمیر المؤمنین علیه السلام:
(ضع أمر أخیک على أحسنه حتى یأتیک ما یغلبک منه ولا تظنن بکلمه خرجت من أخیک سوءاً وأنت تجد لها فی الخیر محملاً(۱۱).
۴- الحسد: وهو أیضاً ماح أو حال للدِّین، ومقطِّع أوصال الأحبّه والمؤمنین، ولقد حذّرتنا الشریعه الإسلامیه من هذه الخصله.
﴿أَمْ یَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾(۱۲)
﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾(۱۳)
وقال رسول اللَّه لأصحابه:
(ألا إنه قد دبّ إلیکم داءُ الأمم من قبلکم وهو الحسد لیس بحالق الشعر لکنه حالق الدین)(۱۴).
ألم یکن الحسد سبباً لقتل قابیل لأخیه هابیل، قال الإمام الصادق علیه السلام:
(والحسد أصله من عمى القلب… وبالحسد وقع ابن آدم فی حسره الأبد وهلک مهلکاً لا ینجو منه أبداً…)(۱۵).
والنبی یوسف علیه السلام ألم یحاول إخوته قتله انطلاقاً من صفه الحسد، وقصته معروفه.
۵- الغیبه: وهی أیضاً مسبّبه لتفکک العوائل، فی حین أن اللَّه تعالى ینهانا عنها لمصلحتنا.
﴿… وَلَا یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضًا أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتًا فَکَرِهْتُمُوهُ﴾(۱۶).
۶- النمیمه، وفحش الکلام، وعدم وجود الاحترام المتبادل، والعقد النفسیه خجل، حیاء، فضلاً عن الغزو الثقافی الغربی لنا، بحیث نکاد نصیر کالغرب فی أخلاقه وقیمه وتوجهاته.
هذه الأسباب لم نفصِّل فیها، حتى لا یطول المقام، ویحسن مراجعه الکتب الأخلاقیه، التی تتحدَّث عن هذه المواضیع بإسهاب، وتعطی العلاج لهذه الرذائل، فبعلاجها یعالج موضوع قطیعه الرحم، وکثیر من العداوات والأحقاد فی المجتمع ککل.
المصادر :
۱- بحار الأنوار، العلّامه المجلسی، ج ۱۶، ص۲۱۰٫
۲- ۲- سوره آل عمران، الآیه: ۱۰۳٫
۳- سوره الحجرات، الآیه: ۱۳٫
۴- میزان الحکمه، الشیخ محمد الریشهری، ج۴، ص۲۸۳۷٫
۵- کتاب الأحداث المنحرفون، د. علی محمد جعفر، ص۵٫ ط المؤسسه الجامعیه للدراسات والنشر والتوزیع ـ بیروت ۱۹۸۴٫
۶- مجله الفکر العربی، عدد ۵۴، ص۲۳۳٫
۷- مجله الفکر العربی، عدد ۵۴، ص۱۷٫
۸- بحار الأنوار، م. س، ج ۲، ص ۱۴۳٫
۹- سوره لقمان، الآیه: ۱۸٫
۱۰- سوره الحجرات، الآیه: ۱۲٫
۱۱- أصول الکافی، الشیخ الکلینی، ج۲، ص ۳۶۲٫
۱۲- سوره النساء، الآیه: ۵۴٫
۱۳- سوره الفلق، الآیه: ۵٫
۱۴- الوسائل، الحر العاملی، ج ۱۵، ص ۳۶۸٫
۱۵- مستدرک الوسائل، المیرزا النوری، ج ۱۲، ص ۱۸٫
۱۶- سوره الحجرات، الآیه: ۱۲٫

Zostaw odpowiedź

Twoj adres e-mail nie bedzie opublikowany.